د/ شوقى علام
الخلل فى تناول مفهوم السمع والطاعة
هناك ضرورة تقررها العقول والشرائع والأعراف تحتم وجود قائد ظاهر لكل اجتماع بشري يقوم على تدبير أمره لما فيه صلاحه، لئلا يعمل كلٌّ على ضد ما يرجوه الآخر، فتنفصم عرى الوحدة، فتحصل الفوضى ويختل نظام المجتمع، خاصة عند اختلاف الرؤى وتباين الرغبات.
ولا ريب أن الشرع الشريف قد رتب واجبات لازمة يؤديها التابع تجاه المتبوع نظير حقوق مطلوبة بنفس الدرجة من المتبوع يؤديها للتابع؛ فالعلاقة بينهما قائمة على التقابل دائما، ومن ذلك السمع والطاعة، حيث يجب عقلا وشرعًا وعرفًا الامتثال والالتزام من الأبناء للأبوين ومن الزوجة للزوج ومن الطلاب للمعلم ومن المأمومين للإمام في الصلاة، ومن الأمة لأولي الأمر فيها، وكل زيادة في الحقوق تقابلها زيادة مثلها في الواجبات، أخذًا من قوله تعالى: «وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا»[النساء: 32].
ومبدأ السمع والطاعة، خاصة في الجانب السياسي والمتعلق بنظام الدولة ومهامها، مقرون بالفهم وتحقيق المقاصد، وتحكمه ضوابط تنظم بين موجبات الحرية الشخصية والمصالح الخاصة من جهة ومقتضيات المقاصد الكلية والمصالح العامة من جهة ثانية، وبين قواعد المحاسبة والمتابعة من جهة ثالثة، وفق أسلوب حكيم الأصل فيه الهدي النبوي؛ فعن علي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف”.
وقد استغل أهل التطرف وجماعات التشدد مفهوم “السمع والطاعة”استغلالا كبيرا فاتخذوه مدخلا سهلا لجلب مزيد من الأتباع المنساقين لأفكارهم والمخلصين في تبني مواقفهم واختياراتهم، وذريعة مباشرة لترسيخ الطاعة المطلقة والانقياد الأعمى لديهم مع إلغاء العقل والتنكر للحكمة وكبح الحرية التي أودعها الله في خِلْقَة الإنسان، حتى ينصاع لهم هؤلاء الأتباع بإخلاص في كل مراحل الدعوة الثلاث (التعريف والتكوين والتنفيذ) وذلك بحسب تقسيمهم.
وهم ينطلقون في ذلك من عدم إدراك للواقع الذي أصبح فيه مصطلح “ولي الأمر” أو “الحاكم” ليس مجرد شخص طبيعي، وإنما أصبح أيضًا شخصًا اعتباريًّا يتمثل في سلطات الدولة الثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية، وكذلك يعتبر في قوة ولي الأمر ما يعرف بـ”النظام العام” الذي تحدده مواد الدستور؛ فضلا عن الخلل الواضح والفهم المغلوط للأدلة الشرعية والمقاصد المرعية؛ حيث يرددون قوله تعالى: (فَأَوْلَى لَهُمْ. طَاعَةٌ وَقَول معروف) في التحذير من المخالفة لهم، مع عدم النظر إلى السياق الذي وردت فيه الآية الكريمة، كما يحرضون على اتخاذهم أمراء وقادة بقوله صلى الله عليه وسلم: “من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني” (متفقٌ عليه).
وهذا لا يدل إلا على سمات ومرتكزات أهل التطرف الخبيثة الهادفة إلى تكوين أتباع منساقين ومخدوعين، ولا يظهر إلا مظاهر السياج المحكم الذي يصنعه هؤلاء خدعة حول تابعيهم حتى يضمنوا عدم الخروج عليهم وتركهم ومخالفتهم، بحجة أن ذلك يُعَدُّ ضربا من مخالفة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وطريقا ممهدة إلى النار وبئس القرار، ولا شك أن هذه الأفكار والمرتكزات ظاهرة في البطلان والفساد، فضلا عن كونها تقرر أشياء مخالفة تمامًا لكل النظم والأعراف حتى المعروفة منها بالشدة والحزم. كما لا يخفى أن الأدلة الشرعيَّة والمقاصد الكلية تؤكد وجوب الامتثال والالتزام لولي الأمر وفق ضوابط محددة، تستوجب وجود أحكام معلومة وشائعة لا أمور سرية، صادرة عن أولي أمر ظاهرين معروفين لا مستورين عينًا وحالًا، وتحت بيعة معلنة وراية مرفوعة لا مجهولة عِمِّية، لكن يأبى أهل التطرف إلا المخالفة والشذوذ والخروج على الأمة وتشويه مفاهيمها الراسخة وتسطيح أجيالها الناشئة.