طريق العدرا ملفة ملفة.. وإن عطانى ربى لاروحله بزفة... طريق العدرا ملفات ملفات.. وإن عطانى ربى لاروحله بزفات... قبتك يا عدرا من البعد بانت.. لما شافتها الجمال هامت وزامت...
هكذا كان يصف الفنان الشعبى المصرى الجميل طريق الذهاب إلى العذراء (مريم) فى مكانها، بعد أن قطع مشوارا كبيرا، ولكنه بفرح وسعادة ونشوة روحية يتغنى بمثل تلك الأهازيج المستبشرة بوجوده فى حضرة تلك القديسة العظيمة..
بمناسبة حلول صيام السيدة العذراء (مريم)، وفى استهلال حوار صحفى، سألنى الشاب المحرر الجميل حول ذكرياتى مع تلك المناسبة، فتذكرت كيف أنه- ومنذ أكثر من نصف قرن- وقبل حلول صيام السيدة العذراء كانت حالتى الصحية قد ساءت جدا، وأنا طفل عمره ٥ سنوات، فقد كان التنفس فى غاية الصعوبة إلى حد بدت فيه حركة جسدى كحركة قربة المياه التى تهزها حركة المياه المحبوسة داخلها، حيث تولت «اللوز» و«لحمية» الأنف سد فتحات مرور الهواء دخولًا وخروجا، وعليه قرر والدى- رحمه الله- السفر فورا لنيل بركات قداسة البابا كيرلس السادس بالقاهرة، وطلب الصلاة من أجل إنجاح العملية، وعند عودتنا من القاهرة، وجدت والدتى قد بدأت صيام السيدة العذراء قبل حلول موعده بأسبوع، وعلمنا أنها قررت صيام ذلك الأسبوع الإضافى طوال حياتها- رحمها الله- وهو ما أوفت به حتى رحيلها طلبا لشفاء ولدها الأصغر بشفاعة من نصوم فى ذكراها كل عام السيدة العذراء (مريم) ١٥ يومًا.
وبمناسبة الاحتفال بتلك المناسبة التى يتشارك فى الاحتفاء بها كل المصريين، كنت أتمنى منذ فترة أن نجد الكثير من الإصدارات التى توثق، وتقدم الدراسات حول الفلكلور القبطى، ودراسات أخرى تتناول المشتركات بين الفلكلور القبطى والإسلامى ودلالاتها البديعة، وبشكل خاص كل ما تم رصده حول تجليات رحلة العائلة المقدسة على أرض مصر المباركة.
يذكر الكاتب عصام ستاتى أنه لا يعرف لماذا يستنكر أغلب المتعلمين على بنى جلدتهم من البسطاء- قناعاتهم وممارساتهم واحتفالاتهم ومدائحهم وأذكارهم، فنجد متعلمين مسلمين يعارضون المدائح والذكر والإنشاد، من كلمة ولحن وتعبير حركى، وكذلك وجدت مقالات كثيرة تنتقد مداحين مسيحيين فى مدائح للعذراء ومدائح لـ«مارجرجس»، وبعضهم يقول إنهم يمدحون على موسيقى «يا بت جملك هبشنى»، وهذا يشبه النقد الذى يوجهه متعلمو المسلمين للأذكار والمدائح على الموسيقى الكلثومية والألحان الفلكلورية، وبدلًا من أن يدرسوا الظاهرة، ويناقشوها مناقشة فنية يلبسونها عباءة الدين، رغم أن الدين نفسه مسيحيا أو إسلاميا لم ينتشر إلا بإيمان هؤلاء البسطاء.
لا شك أن روعة الاحتفاء المصرى بكل ما يتعلق بالسيدة العذراء تعود إلى مدى بهاء صورتها عبر آيات الكتاب المقدس والقرآن الكريم بسيرتها ووجودها، فبرغم حالة التغييب للتاريخ القبطى فى مناهج التعليم، وعبر كل وسائط الميديا فإن وجود سورة باسم السيدة العذراء مريم، وهى السورة الوحيدة التى يتم تخصيصها لسيرة امرأة، يؤكد أنها الحالة الأبرز التى يُعلم بها المواطن المصرى المسيحى والمسلم معًا منذ طفولتهما المبكرة: «وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ. يا مَرْيَمُ اقْنُتِى لِرَبِّكِ وَاسْجُدِى وَارْكَعِى مَعَ الرَّاكِعِينَ. ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ».
وعليه جمعتنا مريم العذراء على حبها، وكان لها فى وجداننا تلك المكانة الرائعة، وانعكس ذلك عبر الوجدان الشعبى والإنتاج الفلكورى شبه الموحد، نشهده فى أمسيات السيدة العذراء مريم ولياليها وموالدها واحتفالياتها.
وكما عودنا الدكتور محمد الباز، وفى كل موقع إعلامى وصحفى يشغله، يحتفل بمناسبة صوم السيدة العذراء وعيدها السنوى، بتخصيص مساحات يومية للاحتفاء بتلك السيرة الرائعة لأم النور، ومع بداية الصوم يتصدر الصفحة المخصصة لها بجريدتنا الغراء «الدستور» تحت مسمى «البتول» مقال افتتاحى لرئيس التحرير «مريم المصرية» ليؤكد مدى تعلق الوجدان المصرى بالسيدة العذراء.
مبادرة رائعة من جريدة فتحت صفحاتها بكل حب لكل أطياف الفكر والرأى لتؤكد أهمية التعددية والتنوع والاتجاه والمساهمة فى الجهود الطيبة نحو تعبيد سبل الوصول إلى تحقيق «المواطنة الكاملة» على أرض وطن يحارب خفافيش الشر وغباوات زمن من ضلوا عن طرق الخير والسلام.
ولعله من المهم، فى النهاية، أن نقترب من السؤال القديم الجديد، وهو الذى طرحه القديس غريغوريوس: لماذا العذراء مريم بالذات اختيرت أمًا للمسيح كلمة الله؟ فيجيب عنه إجابة مختصرة ورائعة، يتحدث الصمت القلبى والصمت العقلى لمريم، يتحدث عن اتحادها الكامل بالله، بالصلاة والتأمل فى صمت، يتحدث عن اختيار الأب لها دونًا عن غيرها، لأسباب يرى غريغوريوس أنها تتمثل فى هذه الإنسان الصامتة فى صلاة، والمصلية فى صمت، يفسر لنا القديس غريغوريوس الصانع العجائب لماذا اختارت النعمة الإلهية العذراء مريم، دون سواها من النساء.
إنها اتحدت بالله، بالصلاة والتأمل، وبرهنت على حكمتها ورزانتها «اتحدت عقليا بالله بدوام الصلاة والتأمل، وفتحت طريقا نحو السماء جديدا»، سمت به فوق المبادئ والظنون، الذى هو الصمت العقلى، وصار لها الصمت القلبى، وكما يقول الكتاب المقدس: «أما مريم، فكانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به فى قلبها».
اختارت النعمة مريم العذراء دون سواها من بين كل الأجيال، لأنها بالحقيقة قد برهنت على رزانتها فى كل الأمور، ولم توجد مثلها امرأة أو عذراء فى كل الأجيال. «جاءت الكلمة الإلهية من الأعالى، وفى أحشائها المقدسة أعيد تكوين آدم».