تاريخ الحضارة البشرية، والصراع المحتدم بين الخير والشر فى نفس الإنسان "الهوموريكتس" منتصب القامة"، منذ ظهوره على سطح كوكب الأرض، يؤكد أن التطور الإنسانى لم يسِر فى طريقه الأمثل. لن أضرب لك أمثلة يعرفها الجميع، ويوضح بعضها أن حجم إنفاق البشر على التسليح والأنشطة العسكرية فى عام واحد فقط يكفى لتخليص إفريقيا إلى الأبد من مشكلة الجوع المزمن والقضاء تماما على كارثة الجفاف. هل أحكى لك عن الجرائم المخزية التى ترتكبها الشركات متعددة الجنسيات على اختلاف أنواعها عامدة متعمدة، وغير جاهلة بتوابعها الكارثية، عندما ترفض بإصرار وضع خطة عملية لإحلال استخدام محركات الطاقة النظيفة محل المحركات التى تستخدم المنتجات البترولية المشتقة من الوقود الأحفورى؟ أم أحكى لك عن شركات الأجهزة الطبية العملاقة التى تتحكم بنفوذها ونقودها فى تجميد غالبية أبحاث التطوير التى يمكن أن تقود إلى أجهزة جديدة تؤدى إلى ركود منتجاتها القديمة وتعطل دوران خطوط إنتاجها؟ أى أن استمرار إنتاج أجهزة القلب والرئة التى يستخدمها أباطرة عمليات القلب المفتوح، على سبيل المثال، أهم لدى تلك الشركات ألف مرة من تطوير أبحاث إذابة جلطات الشرايين بالليزر دون جراحة! تمامًا مثل الشركات التى تنتج مرشحات تنقية المياه بالطرق التقليدية المعقدة، والتى قامت بتعطيل طرح زمزمية تحلية مياه البحر تجاريا. تلك الزمزمية السحرية التى صممتها وأنتجتها معامل أبحاث الجيش الأمريكى لتستخدمها قوات المارينز المقاتلة فى حرب الخليج الثانية لتحلية ماء البحر بطريقة تسمى الضغط الأوزموزى العكسى "Reverse Osmosis". كل ما سبق يؤكد أن المأزق الفلسفى للحضارة البشرية يكمن فى حقيقة مخجلة تتلخص فى أن الحرب تدفع الإنسان إلى استخدام العلم لتطوير قدراته القتالية بطريقة مبهرة، وعندما ينتج عنها شىء فذ يتم التلكؤ فى استخدامه فى أوقات السلم حتى لا يؤدى إلى ركود البضائع التقليدية التى لم تتهالك خطوط إنتاجها بعد! هذه هى القاعدة مع الأسف، وكل ما يتم طرحه من منتجات جديدة تغرق الأسواق من آن لآخر لا يمثل سوى الاستثناء رغم ضخامته. فى سنوات المراهقة تألمت كثيرًا عندما قرأت عن بعثة بترولية مصرية تاهت فى الصحراء الغربية ومات كل من فيها. هذا الأمر جعلنى أحلم بصحراء غير التى نعرفها. فكرت يومها بمثالية فى مشروع تتبناه الأمم المتحدة لإنشاء مئات، أو ربما آلاف من المحطات الصغيرة يتم توزيعها على صحراوات العالم. كل محطة منها تستخدم كاستراحة صحراوية يتم إقامتها فوق بئر مزودة بطلمبة تعمل بالطاقة الشمسية، ولا تحتاج إلى صيانة دورية إلا كل عشر سنوات على الأقل. أى أنها منشأة للإنقاذ، لا تكلف سوى ثمنها، الذى تتضاءل قيمته مهما ارتفعت أمام الحفاظ على حياة إنسانية واحدة. تلك المثالية فى التفكير لم تكن تعكس سذاجة بقدر ما كانت تعكس رؤية بريئة ثاقبة تتعطل لدى البشر كلما زادت أعمارهم.
ما يحدث أيضًا فى الثورات الإنسانية على مدار التاريخ يؤكد تلك الحقيقة البسيطة المفزعة، فكلما ثارت هبة عارمة من بسطاء يطحنهم الغلاء والاستعباد والتجهيل الذى يتوازى مع تغييب الحقوق، يعقبها إجهاض وتشويه من أصحاب النفوذ والمال، يهدف إلى استمرار قوى الثورة المضادة فى الحكم للحفاظ على مصالحها دون أدنى اعتبار لمعاناة الملايين، وبلا ذرة من ضمير تؤلمه صرخة جائع أو مظلوم. إنها حضارة شريرة تدفع أصحاب الضمير الحر إلى العزلة وزراعة حدائقهم الصغيرة، كما قال الحكيم كونفوشيوس. فى نهاية المقال لن أعتذر لكم عن هذه الهجمة الاكتئابية، فكل ما يحدث حولنا، فى الداخل والخارج، يبررها.