أنا واحدة من أكثر المؤمنين بأنه لا تقدم للمجتمع في ظل تخلف وضع المرأة، وأؤمن أيضا أن المرأة تملك مفاتيح التغيير للأفضل بحكم تعدد أدوارها وتأثيرها الكبير في عملية التنشئة الاجتماعية، ولذلك نجد أن كل أصحاب الرؤي التقدمية يجعلون المرأة حجر الزاوية في إنهاض المجتمع ويتعاملون مع مفهوم المواطنة باعتباره مفهوما جامعا، والعكس صحيح فكل جماعات التطرف الفكري وتنظيمات العنف الديني تحرص علي تهميش المرأة وتكبلها بترسانة من المحرمات والممنوعات أكثرها من بنات أفكارها ولا صلة لها بصحيح الدين.
في ٢٦ يوليو الماضي شهدت تونس تطورا مهما حريا بِنَا أن نحتفي به كنساء وأيضا كقوي تقدمية ، فلقد صادق مجلس نواب الشعب علي قانون القضاء علي العنف ضد المرأة، وهو قانون تضمن عددا كبيرا من المكاسب بالنسبة للمرأة التونسية أخص منها مكسبين أساسيين، المكسب الأول هو التوسع في تعريف العنف الذي يمارس ضد المرأة ليشمل العنف الجسدي والنفسي والجنسي والاقتصادي والسياسي. أي أن القانون تجاوز تجريم الإيذاء البدني للمرأة إلي تجريم كل مساس بحقوق المرأة وحرياتها الأساسية، ففيما يخص الحقوق السياسية للمرأة مثلا اعتبر القانون من قبيل العنف السياسي كل ممارسة تهدف لحرمان المرأة أو إعاقتها عن مزاولة أي نشاط حزبي أو سياسي أو جمعياتي .. إلخ، وعاقب كل من يفعل ذلك لأول مرة بغرامة قيمتها ألف دينار تونسي «حوالي ٤١٥ دولارا» فإن كرر فعلته حوكم بالسجن لستة أشهر. هنا يلفت نظرنا أن المُشّرع تعامل مع العنف بوصفه ظاهرة لا تتجزأ و قام بترجمة نص الفصل ٤٦ من دستور ٢٠١٤ الذي يتضمن اتخاذ الدولة التدابير الكفيلة بالقضاء علي العنف ضد المرأة، كما أن المُشّرع لم يكتف بتجريم الحرمان الفعلي للمرأة من ممارسة حقوقها بل تجاوز ذلك لتجريم إعاقة ممارسة هذه الحقوق ليسد الأبواب الخلفية للعنف، لكن يبقي أن إثبات وقوع الحرمان من الحق أسهل بكثير من إثبات إعاقة ممارسة هذا الحق.
المكسب الثاني شديد الأهمية هو رفض إسقاط العقوبة الجنائية عن المغتصب حتي في حالة زواجه من ضحيته دون السادسة عشرة، فمثل هذا الزواج كان وسيلة لإفلات الجاني من العقوبة في الوقت الذي تعاقب فيه الفتاة مرتين، مرة لأنها كانت ضحية نزوة عابرة لشخص معدوم الضمير، ومرة أخري لأنها تضطر للارتباط بهذا الشخص حفاظا علي التقاليد. هنا نذكر بأن الحملة ضد تزويج القاصرة من مغتصبها كانت قد اكتسبت زخما كبيرا بعد اعتداء شاب عشريني علي صبية في الثالثة عشرة حملت منه سفاحا وصدور حكم الحكمة بتزويجهما. من المهم للغاية أن نضع هذا القانون الذي ينصف المرأة التونسية ويفعل مواطنتها المتساوية بنص الدستور، نضعه في سياق الكفاح المستمر للنساء التونسيات من أجل تثبيت وضعهن شديد الخصوصية في عالمنا العربي . فمن تنبيه المنظمات النسائية فور صعود الإسلاميين بعد الثورة إلي أنه لا مجال للتفريط في مجلة الأحوال الشخصية ، إلي دعم تلك المنظمات جهد النساء التقدميات في المجلس الوطني التأسيسي لرفض مبدأ «التكامل» بين الرجل والمرأة والتمسك بمبدأ «التكافؤ» في تحمل مختلف المسئوليات وفِي كل المجالات وبمبدأ «التناصف» في المجالس المنتخبة، إلي الوقوف مع المثقفات اللائي تعرضن لمحاولات تشويه تاريخهن مع زحف التيار السلفي علي المجتمع التونسي وتدهور الوضع في ليبيا.
لا يجعلنا التحليل السابق نستخلص أن المعركة من أجل حقوق المرأة التونسية هي معركة نسائية، ففي واقع الأمر فإن هذه المعركة كانت معركة كل القوي المستنيرة في المجتمع المدني، فالمثقفون التونسيون يدركون أن الصراع علي المرأة التونسية هو واجهة للصراع علي جوهر الفكرة المدنية ذاتها، ولذلك كان من الطبيعي جدا أن يكون الاتحاد التونسي العام للشغل من أوائل قوي المجتمع المدني التي رحبت بقانون القانون القضاء علي العنف ضد النساء. مثل هذا الوعي الذي يميز المجتمع المدني التونسي كان من الصعب جدا علي حركة النهضة أن تتجاهله، وبالتالي فبعد فترة من المماحكة والأخذ والرد في بداية الثورة ومحاولة انتهاز الفرصة لم تستطع الحركة الاقتراب من مجلة الأحوال الشخصية حتي عندما كانت الحركة هي صاحبة الأغلبية في المجلس الوطني التأسيسي. هنا لابد من الإشارة إلي أن قانون القضاء علي العنف ضد المرأة قد تمت الموافقة عليه بإجماع الحاضرين وكانوا ١٤٦ نائبا من أصل ٢١٧، فعلي الرغم من ارتفاع نسبة الغياب في جلسة المصادقة علي مشروع القانون لكن كان لافتا تصويت النهضة لصالحه، وقد فسر الغنوشي ذلك بقوله إنه لا يجوز باسم الحفاظ علي الأسرة الإفلات من العقاب.
كما لا يُستفاد من التحليل السابق أن نساء تونس كن فاعلات فقط في القضايا التي تمس مصالحهن مباشرة كنساء، فالصحيح أنهن كن شريكات بقوة في أحداث الثورة وفِي كل المراحل المفصلية التي مرت بها تونس لاحقا من حكم الترويكا إلي تنامي ظاهرة الاغتيالات السياسية لتشكيل جبهة الإنقاذ علي شاكلة نظيرتها المصرية ثم جهود الرباعية وتشكيل حكومة وحدة وطنية.. بل ها هي المرأة التونسية في قلب المعركة ضد التطبيع مع إسرائيل كما تجلي في موقفها الأخير من مشاركة ميشيل بوجناح في مهرجان قرطاچ.
إن المجتمع المدني هو الظهير القوي لقضية المرأة ودعمه هذه القضية هو الضمانة الحقيقية لإدامة مكاسب المرأة بغض النظر عمن يجلس في قصر الرئاسة ، لذلك ذهب بن علي وجاء المرزوقي وذهب المرزوقي وجاء السبسي ومكاسب المرأة التونسية كما هي جزء لا يتجزأ من الثقافة السياسية للمواطنين. وبقدر ما تشتبك النساء مع قضايا مجتمعهن فإنهن يربطن حقوقهن ربطا وثيقا بمسار التقدم للمجتمع ككل ، وهذا ما وعاه التونسيون وعيا جيدا.