د. مصطفى محمود
ترامب قرر اللعب على المكشوف
نحن الآن فى زمن القتلة الاقتصاديين، أمام أخطبوط بآلاف الأرجل والأيادى يُسيطِر على هذا العالم من بوابة الاقتصاد، فجشع الدول الكُبرى وراء قمع الطموحات وتحويل الدول إلى مُجرّد منفذى أوامر القوي فى هذا العالم. عبر ما يوصَف بالحرب الناعمة، وفى الواقع، تاريخ الرأسمالية منذ قرون يعول على ذلك، ففى الحقبة الاستعمارية، يُطيح بشعوب وبُلدان ضمّاً وفرزاً ونهباً للخيرات عبر الشركات الفرنسية والإنجليزية الكُبرى وفى حقبة الاستقلال، صارت الهيمنة ناعمة عبر السياسات والقروض، ودوزنة انتقال التكنولوجيا عبر إجبار الدول على التخصّص بإنتاج مُعيّن دون الآخر ونقل جزء من الصناعات الملوِّثة القليلة القيمة، والصناعات التجميلية والاستهلاكية، والسيطرة بسياسات الإغراق، بالاتفاقات التجارية مع تحفيز الاستهلاك على حساب الإنتاج، والعمل على إغفال عدم مُتابعة الفساد والرشوة ونهب المال العام، وبهذا امتلأت خزائِن (أمريكا) بالمال وربط الدولار بمعيار النفط فأصبحَ الدولار العُملة الأقوى فى العالم التى يُمكن التبادل بها حصراً على المُستوى الدولى بالنسبة إلى التبادلات النفطية، تضافر هذا مع ضعف البنية السياسية والثقافية ونظام التعليم فى بلادنا.
ومنذ حرب (فيتنام) وأصبح التركيز بشكلٍ أساسى على استعمال القتلة الاقتصاديين، لإعادة إنعاش الاقتصاد الأمريكى. والرئيس «ترامب» يرغب فى الارتقاء بذلك إلى مستوياتٍ أعلى بكثير. من خلال نظامين أساسيين، الإمبريالية العسكرية التى وُجِدت دوماً بصورةٍ تقليدية كما عهِدناها على مرّ التاريخ وعلى مُستوى مختلف بقاع العالم، أو منظومة القتلة الاقتصاديين، فكلّ شرِكة عالميّة أصبح لها قتلة اقتصاديون مثل شركات كـ «نايكى» وغيرها والشركات النفطية الكُبرى وهى تُحاول أن تستخدم هؤلاء لخدمة مصالِحها الأساسية.. ومن المعروف أن القتلة الاقتصاديين هم رجال محترفون يتقاضون أجراً عالياً لخداع دول العالم بابتزاز تريليونات الدولارات. وهم بهذا يحوِّلون الأموالَ من البنك الدولى، ومن الوكالة الأمريكية للتنمية، ومن منظمات (مساعدات) أجنبية أخرى، لتصبَّ أخيراً فى خزائن الشركات الضخمة وجيوب قلةٍ من الأسر الغنية التى تتحكم بموارد الأرض الطبيعية. وسبيلهم إلى ذلك تقاريرُ مالية محتالة، وانتخابات مُزوَّرة، ورشاوى، وابتزاز، وغواية جنس، وجرائم قتل. إنهم يمارسون لعبةً قديمةً قِدَمَ الإمبراطوريات، ولكنها لعبةٌ اتخذت فى هذا الزمن العولمى أبعاداً جديدة رهيبة.
فاجتياح (العراق) كما يقول «جان بيار» هدفه الأساسي منع دول مثل (الصين) وغير (الصين) من أن تعقِد عقوداً نفطية أو تُقيم عقوداً نفطية مُباشرة مع (العراق) لكى يبقى (العراق) واقتصاد (العراق) تحت هيمنة الشركات الأمريكية. وجميعنا يعلم أن اجتياح (العراق) شجِّعَ من قِبَل شركات أمريكية أساسية كانت تابعة لوزراء دفاع وغير وزراء دفاع، مثل «دونالد رامسفيلد» وغيره. لذلك لم يكن غريبا أنه فى أُغسطس عام 1990 يُصدر مجلِس الأمن القرار رقم 661 ويفرِض عقوبات اقتصادية على (العراق) بذريعة التأكّد من خلوّ (العراق) من أسلِحة الدمار الشامل وتبيّن طبعاً أنّها كذبة، لم يكُن هناك أسلِحة دمار شامل، وفى عام 1994 بلغ التضخُّم مرحلة كارثية، وصل مُعدّله إلى 24٫000 بالمئة. مما أُفقِر الناس، هُمِّش التعليم، قُتِلت رواتب الموظفين الصغار والمتوسطين، مُنِعت الكهرباء، شحّت المياه والمواد الأولية خصوصاً المواد الطبيّة والمدرسية وغيرها.
مثلاً القلم الرصاص كان ممنوعاً وزاد مُعدّل وفيات الأطفال إلى الضعف ووصلت نسبة سوء التغذية إلى نحو 30 فى المئة بين الأطفال، وبلغت وفيات المواليد أعلى نسبة فى العالم. عادت الأمراض المُعدية والأوبِئة خصوصاً عبر المياه الملوّثة وفى مُقدّمها الملاريا، لكون العقوبات الاقتصادية سلاحٌ فتّاك يقتُل الشعوب، وهو اختراع امبريالى، مجرب بنجاح ومستمر... لذلك إن ما حدث فى العراق يحدث وبشكل أكثر احترافية مع دول الخليج وبالأخص السعودية وقطر، لأن ترامب قرر أن يكون اللعب على المكشوف وفوق الترابيزة، واصبح القاتل الاقتصادى واضحاً وضوح الشمس، ولكنهم للأسف فى جهلهم يَعْمَهُونَ.