محمد سلماوى
البعد الدولى لقضية سراج الدين
كانت جريدة «واشنطن بوست» هى أول من نشر البيان الذى أصدرته الشخصيات العامة المصرية فى حق الدكتور إسماعيل سراج الدين، المدير المنتهية مدته لمكتبة الاسكندرية، والذى أصدرت إحدى المحاكم الفرعية بالاسكندرية حكما عليه بالحبس ثلاث سنوات ونصف، وبذلك خرجت القضية - كما كان متوقعا - من مبنى المحكمة بميدان عرابى الى الساحة الدولية لتمس بسمعة مصر وصورتها أمام العالم، وكأنه لم يكن يكفى مهاجمة مصر على ما يرتبط بها من سلبيات، وتضخيمها إلى حد المبالغة غير الواقعية، فأردنا أن نهدم أيضا الإيجابيات والتى لم يكن يختلف عليها أحد، وفى مقدمتها مكتبة الاسكندرية، ذلك الصرح الحضارى الدولى الذى ظل العالم يقف أمامه مشدوها طوال الـ15 عاما الأخيرة.
والحقيقة أنه لم يكن من الممكن أن تظل تلك القضية التى انتفض لها المجتمع المصرى كله، محصورة داخل حدود مصر السياسية، فلمصر حدود أخرى دولية تغطى مساحة العالم كله، وهى حدود صورتها الدولية، ومثل هذا الحدث الصادم وغير المتوقع كان من الطبيعى أن يلقى اهتماما دوليا على أكثر من مستوي، فمثلما سارعت المئات من الشخصيات العامة المصرية لإصدارها بيانها الذى تناقلته الصحف وأجهزة الإعلام المصرية والدولية خلال الأيام القليلة الماضية، فإن عددا من الشخصيات الدولية المماثلة والتى تتمتع بسمعة ومكانة مرموقة، قد انتهت من صياغة بيان فى هذا الشأن سيكون له دوى خطير حين يتم نشره خلال الأيام القليلة المقبلة، فقد تعدى عدد الموقعين عليه حتى الآن المائتى شخصية أجنبية تضم بعض أكبر الأدمغة فى العالم ومن بينهم نحو 20 من الحاصلين على جائزة نوبل فى مختلف المجالات.
وقد سبق كل هذا البيان الذى وجهه مجلس أمناء المكتبة الى رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسى بصفته رئيسا للمجلس، والذى قدموا فيه شهادتهم فى حق مؤسس المكتبة ومديرها طوال الـ15 عاما الماضية، ويضم مجلس الأمناء عددا من رؤساء الجمهوريات السابقين ورؤساء الوزارات والوزراء، بالإضافة لبعض أكبر رجال الفكر والثقافة والعلم فى العالم، وقد أعربت إحدى هذه الشخصيات - وقد كانت فى موقع الرئاسة فى بلدها - عن تحفظها على ذلك الحكم الجائر الذى أصدرته محكمة جنح الاسكندرية الجزئية، لما فيه من مساس غير مقبول بأعضاء مجلس الأمناء أنفسهم والذين تقع عليهم قبل غيرهم مسئولية اعتماد قرارات مدير المكتبة، سواء كانت تتعلق بتأجير الكافتريا، أو بالتأمين على الموظفين، أو بالتعاقد مع المستشارين، أو غير ذلك.
ولقد أشرت فى مقالى فى الأسبوع الماضى حول هذا الموضوع الى المكالمة التى تلقيتها من أحد الكتاب الفرنسيين المتخصص فى التاريخ المصرى القديم، والذى أخبرنى فيها بأنه ومجموعة من كبار الشخصيات الذين يعرفون إسماعيل سراج الدين على استعداد للحضور إلى مصر لتقديم شهادتهم فى حقه أمام المحكمة، كما تلقيت مكالمات من بعض الشخصيات العربية تعترض على أن البيان الذى صدر فى مؤازرة الدكتور سراج الدين اقتصر على الشخصيات المصرية وحدها دون العربية، واعترضت بعض الشخصيات المصرية على أنه لم يعرض عليها التوقيع على البيان وكان من بينهم الدكتور جابر عصفور وزير الثقافة الأسبق، والباحث السياسى الدكتور أسامة الغزالى حرب، والشاعرة فاطمة ناعوت، والقيادى الإسلامى الدكتور عبد المنعم أبوالفتوح، من ناحية أخرى فإن بعض كبار رجال القانون، ومنهم الدكتور أحمد السيد عوضين المستشار القانونى السابق لمؤسسة الأهرام والمستشار عصام الإسلامبولي، تفضلوا فأكدوا لى صحة ما ذهبت اليه فى المقال من أن أحكام القضاء ليست مقدسة، وأن المقولة الشائعة التى تلوكها كل الألسنة، بأنه لا يجوز انتقاد أو مناقشة أحكام القضاء أو التعليق عليها، لا سند لها فى القانون، بل إن القضاء نفسه عندنا وعند غيرنا، يقر بحق المواطن فى الطعن على أحكام القضاء، واستئنافها، ونقضها أيضا، فمن أين جاءت تلك الحصانة التى لم نعهدها الا فى الإعلان الدستورى الذى أصدره الرئيس الاخوانى محمد مرسى فى نوفمبر عام 2012 والذى أضفى على قراراته قدسية غير معهودة لا تسمح بمراجعتها ولا الطعن عليها؟!
كذلك اتصل بى أحد القياديين بحزب الوفد مبديا رغبة الحزب فى دعم الدكتور إسماعيل سراج الدين، ابتداء من إصدار بيان تأييد الى التضامن معه قضائيا، وقلت لمحدثى أن صاحب الرأى فى هذا هو إسماعيل سراج الدين نفسه وليس غيره، فالقضية قضيته، وقد كان رأى الدكتور إسماعيل كما علمت أنه مع تقديره لموقف الوفد فهو يفضّل أن يخوض معركته بنفسه دون تسييس لها، لكن الحقيقة أن مثل هذه القضايا لا يمكن لصاحبها أن يتحكم فيها بشكل كامل، فالقضية تحولت بسرعة الى قضية رأى عام، كما خرجت من محكمة الجنح الجزئية بالإسكندرية إلى نطاق العالمية، بل إن القضية كانت عالمية من بدايتها، فمكتبة الإسكندرية تختلف عن مكتبة قصر ثقافة الأنفوشى الذى لا يبعد عنها كثيرا، ذلك أنها مؤسسة دولية شاركت صفوة المجتمع الدولى فى تأسيسها، وحضر الملوك والرؤساء مراسم افتتاحها، وضم مجلس أمنائها أكبر الأسماء والشخصيات العالمية، لذلك فكل ما يخص المكتبة هو بالضرورة شأن دولى لا يمكن الحيلولة دون اهتمام العالم به، سواء على المستوى السياسى أو الثقافى أو الإعلامي، وقد أفادنا هذا البعد الدولى كثيرا فى معركتنا من أجل رفعة اسم مصر ومواجهة الصورة السلبية التى يريد البعض أن يلصقها بنا، لقد أثبتت مكتبة الإسكندرية أن مصر هى بالفعل بلد الثقافة والفكر والحضارة الإنسانية فى مواجهة ما يروج له البعض من أنها بلد التخلف والإرهاب وإهدار حقوق الإنسان، لقد استطاعت المكتبة على مدى 15 عاما حتى الآن من اجتذاب أكبر العقول الدولية فى مؤتمرات وندوات ملأت صفحات الجرائد الدولية على مدى تلك السنوات، فكيف أوصلتنا نظرتنا الضيقة الى ذلك التصور القاصر بأن العالم سيدير ظهره لما يحدث من تلويث لاسم مؤسس المكتبة ومديرها على مدى 15 عاما، باعتباره شأنا داخليا لا يهم أحدا خارج مصر؟!
الرأفة يا سادة باسم مصر، وسمعتها، وتاريخها الحضاري.