المصريون
د. وحيد عبد المجيد
الدرس "البونابرتى" الذى لا يستوعبه الطغاة؟
يزخر التاريخ بدروس يكفي استيعاب نذر يسير منها لتجنب مصائر مؤلمة، الدرس "البونابرتي" الماثل فى تجربتي نابليون بونابرت وابن أخيه شارل لويس بونابرت، أحد أهم هذه الدروس وأكثرها بلاغة، فضلًا عن أنه أقدمها فى العصر الحديث.


السيمفونية الثالثة


كانت بداية نابليون الأول مُبشرة، بل بدت مُلهمة بمعايير عصره، إلى حد أنه فتن مثقفين كبارًا فى العالم منهم الموسيقي العظيم بيتهوفن الذى وضع السيمفونية الثالثة تمجيدًا له.


وتكفي قصة هذه السيمفونية، فى التعبير عن جوهر الدرس الذي يحتاج إلى استيعابه كل حاكم يظن أنه قادرعلى أن يُحقَّق أمجادًا عبر احتكار السلطة والحقيقة.
وضع بيتهوفن هذه السيمفونية من أجل نابليون، معتقدًا أن سياساته ومشاريعه ستُغَّير التاريخ وتُحقَّق لفرنسا مجداً عظيمًا، ولكن لم تمض بضع سنوات حتى أدرك كم كان واهمًا، وربما فهم أن البحث عن بطل منقذ ليس إلا وهمًا، ولذا قام بتغيير اسم السيمفونية إلى البطولة "إيرويكا"؛ لكى تحمل معنى عامًا مجددًا، وليس مرتبطًا بشخص.


وربما كانت هذه بداية وعي تنامي عبر العقود، بأن البطولة هى حالة ترتبط بمنظومة عامة يصنعها مواطنون أحرار، عبر مشاركتهم فى مجتمع تتوفر فيه المقومات اللازمة لإطلاق طاقاتهم الخلاَّقة، وليست صفةً تُخلع على حاكم هنا أو هناك نتيجة وعي زائف بأن القدر جاء به لإنقاذ هذا البلد أو ذاك.




أوهام الحاكم المُنقذ


لم يُنقذ نابليون فرنسا، بل لم يستطع إنقاذ نفسه من نهاية مؤلمة انتهى إليها مهزومًا ومنفيًا. اعتلى نابليون السلطة منفردًا تمامًا "امبراطورًا" عام 1804م، ومتمتعًا بشعبية جارفة ربما يجوز القول إنها كانت الأولى من نوعها فى التاريخ. فلم تُتح فرصة لأى شعب قبل ذلك لاختيار من يحكمه، أو للتعبير عن موقفه بحرية.
كانت هذه المرة الأولى التى التف فيها قطاع واسع من الشعب بإرادته، حول حاكم قدم نفسه بوصفه من يستطيع إنقاذ فرنسا من الاضطرابات الدموية التى غمرتها فى السنوات التالية لثورتها العظيمة عام 1789م.


لم يُقًّدر نابليون طبيعة المهمة التى تنتظره على وجه التحديد، وانهمك فى معارك أغرته انتصاراته الأولى فيها، ولكن هذه الانتصارات التى بدأت فى معركة ترافلجار انتهت بهزيمة ساحقة أسدلت الستار على مرحلته الزاخرة بدروس يفوز من يعرفها ويستوعبها، ويخسر من يجهلها أو يستهين بها.


وحتى عندما لقى هزيمته الساحقة الأولى، ودخلت قوات التحالف باريس عام 1814م، لم يدرك هول ما فعله حين احتكر السلطة، وعاش فى عالم من صنعه، وفقد الصلة بالواقع، وعندما هرب من منفاه الأول فى جزيرة "ألبا"، وعاد إلى فرنسا فى العام التالي، لم يفهم أنه فى حاجة إلى تحرير الشعب من القيود التى كبله بها، وإعادة بناء الوضع الداخلي، وتبنى منهج مختلف قبل خوض المعركة التى أرادها فاصلة حاسمة، بل ذهب من فوره إليها فى واترلو، حيث لقى هزيمته النهائية التى نُفي بعدها إلى جزيرة سانت هيلانة، ومات فيها محسورًا ذليلًا.


لا صوت يعلو


لم تكن الحروب المتواصلة التى خاضها، ويُطلق عليها الآن "الحروب النابليونية"، هى الخطأ الذى وقع فيه وكان سببًا فى محنته. فلم يكن ممكنًا تجنب خوضها لأن أطماع بعض الملكيات الأوروبية المعادية للثورة الفرنسية كانت قد بلغت ذروتها.


ولكن خطيئة نابليون التى أدت فى النهاية إلى هزيمة ساحقة لفرنسا، كانت فى طريقته فى إدارة الحرب التى حقق فيها انتصارات فى البداية، قبل أن يغريه الطغيان ويغلق المجال العام، ويعصف الأصوات المختلفة، ويرفع شعارات تحمل المعنى الذى تسبب فى هزيمة كثيرين بعده وهو "لا صوت يعلو فوق صوت الحرب".


فقد اعتقد أن إلغاء التعدد والتنوع وحجب الأصوات المختلفة يُقويان الدولة، ولم يدرك أنهما يضعفانها، وظن أن تقييد الصحافة وتحويل الإعلام إلى دعاية يُحقق رصيدًا له فى الحروب الصعبة التى خاضها، ولم يدرك أن حرية الصحافة هى التى تعينه، وأن تكميمها يحرمه من أهم ما يحتاج إليه، وهو أن يرى الواقع كما هو بلا تزيين أو تزييف، ولعله ابتهج عندما انخفض عدد الصحف، ولم يُقدَّر الخطر المترتب على ذلك.
وفى سنوات نابليون الأخيرة، كان الفرنسيون يقرأون فى الصحف التى نافقته أخبارًا عن انتصارات ساحقة فى ميادين القتال، فى الوقت الذى يسمعون من العائدين من هذه الميادين غير ذلك.


كان نابليون فى حاجة إلى من يُطلعه على الحقائق فى وقت مبكر، ولو أن هذا حدث، لاستطاع تغيير خططه وتصحيح أخطاء هنا وهناك، لأنه كان قائدًا فذًا.


تحولات "المطبلاتية"


لم يدرك نابليون أيضًا، وقد فعل الاستبداد فعله فيه، أن شعبيته التى كانت فى القمة أخذت تنحسر. لم يفهم مغزى هذا التحول. كما لم ير فى عليائه كيف تحول عنه بعض من رفعوه إلى القمة، ودقوا له الطبول، وانهالوا على معارضيه قدحًا وذمًا وتشهيرًا، وأخذوا يعدون أنفسهم لمن سيأتي بعده.


ومن أشهر هؤلاء الأديب الفرنسي المعروف فرانسوا دي شاتوبريان، الذى دار حول نفسه دورة كاملة، أكملها عشية سقوط نابليون النهائى؛ فقد وضع عام 1814م كتابًا فى هجاء نابليون، وليس فقط فى نقد أدائه فى الحكم، والتبشير بعودة أسرة آل نابليون التى أسقطتها ثورة 1789م تحت عنوان "بونابرت – عن آل بوربون وضرورة انضمامنا إلى أمرائنا الشرعيين من أجل سعادة فرنسا وأوروبا".


ويختزل هذا العنوان موقف شاتوبريان، الذى انقلب على نابليون وأيد عودة أسرة آل بوربون، ورأى فيها السلطة الشرعية بعد أن كان قد أشبعها هجومًا.


وقد نُشر الكتاب فى الوقت الذى بات واضحًا أن سلطة نابليون تتهاوى، وأن أسرة آل بوربون تستعد للعودة مجددًا. ولم يخجل المؤلف من أن يضع فى هذا الكتاب روايات عن نابليون، كان هو نفسه قد فندَّها من قبل حين كان مؤيدًا له، كما لم يستحِ من التمرغ تحت أقدام آل بوربون، ومطالبة كل الفرنسيين بأن يلتفوا حول أصحاب العرش الشرعيين، الذين هم وحدهم القادرون على توفير السلام والسعادة والنظام.


ومن سخرية التاريخ أن شاتوبريان مات فى العام الذى شهد ثورة كبرى "1848م" أطاحت أسرة آل بوربون مرة أخرى وأخيرة، بعد أن تأكد أنها لا تملك إلا تأجيج الصراع ونشر البؤس والتعاسة فى أرجاء البلاد.


.. وبونابرت الثالث أيضًا


ولا يختلف درس نابليون الثالث، الذى انتُخب رئيسًا عقب ثورة 1848م التى أعادت النظام الجمهورى، وأسَّست الجمهورية الثانية فى فرنسا.


أعاد الفرنسيون إنتاج وهم الحاكم المُنقذ مرة أخرى، لأن الوعي العام لم يكن قد تطور على نحو يتيح إدراك هول ما ترتب على هذا الوهم، واستيعاب درس نابليون الأول.


ومضى نابليون الثالث، الذى زارت زوجته أوجيني مصر؛ لحضور حفل افتتاح قناة السويس عام 1869م، على خطى عمه، فقد انقلب على الجمهورية الديمقراطية، وأعلن نفسه امبراطورًا، وعصف بمن رفضوا دكتاتوريته بعد أن كانوا بين مؤيديه، وظن أن تحقيق بعض الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية يتيح له أن يفعل ما يشاء فى البلاد والعباد، وأن تحويل باريس إلى أروع عواصم أوروبا يُغنى عن أصوات الحرية فى شوارعها وميادينها.


ولذا لقى مصيرًا مشابهًا لعمه. تشابهت البدايات. فكان طبيعيًا أن تتشابه النهايات. فقد هُزم فى حربه على بروسيا فى يوليو 1870، وأُسر فى معركة سيدان، وسُجن فى ألمانيا قبل نفيه إلى إنجلترا حيث مات محسورًا ذليلًا مثل عمه.


نقلا عن موقع الطريق‎
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف