في كل مؤسسة توجد شخصية محورية.. رجل يعتبر رمانة الميزان.. يلجأ إليه الجميع وقت الشدة.. يلم الشمل.. يصالح بين المتخاصمين.. يهدئ الغاضبين.. يتعامل بحكمة ترضي جميع الأطراف.. يحمل علي كتفيه عبء نقل التقاليد الراسخة للأجيال.. هو حلال المشاكل.. يحتضن الشباب.. ويجمع أهل الدار.. يصبح عنواناً للمكان وجزءاً منه. لا يمكن الاستغناء عنه. ولا يمكن تخيل المؤسسة بدونه. أو شكلها بعد غيابه.
كان فاروق عبدالعزيز "رحمه الله" هو هذه الشخصية في جريدة "الجمهورية". بل وفي مؤسسة "دار التحرير".. فاليوم يبدأ من عنده. لأنه أول من يدخل من الباب في الصباح الباكر.. يقوم بتجهيز جدول العمل ويحدد التكليفات "الأجندة" ويدير مجلس التحرير ويضع خطة قسم الأخبار ويوزع المهام علي الصحفيين.. وفي نفس الوقت يعد لهم الإفطار.. حيث يرسل يومياً بمن يحضر سندويتشات "الفول والطعمية" علي حسابه ليأكل المحررون والعاملون معاً.. فكان ينشر الألفة والمحبة في كل الأوقات ومختلف المناسبات.. ولا يمكن لأحد أن ينكر كرم "بابا فاروق" أو ينسي الولائم التي يقيمها في الأعياد والإجازات.. بل إنه كان يخترع مناسبات ليحضر الحلوي والكنافة والبقلاوة والجاتوه ليسعد الجميع.. فهذا عيد ميلاد زميل.. ويوم آخر بمناسبة فوز الأهلي.. ومرة لأن صحفياً تزوج. أو جاء له مولود.. فمناسبات "الحاج" لا تنتهي.. ولا يمكن لأحد أن ينافسه في الكرم الحاتمي.. خاصة في العزائم المستمرة بأحد مطاعم الكباب الشهيرة.. فمكانه بالمحل محجوز.. ويستطيع أي صحفي أن يذهب هناك ويأكل ولا يدفع.. فقط يقول لهم أنا من طرف "الحاج فاروق بتاع الجمهورية"!!
إذا تعرض أي زميل لمشكلة أو ضائقة مالية. فعليه بالحاج فاروق.. ولو أراد صحفي أن يقضي مصلحة أو أصيب بمرض. أو حدثت عنده حالة وفاة. فمن غير "بابا فاروق" يعينه ويساعده ويقف بجواره. ويظل يسأل عنه. حتي يطمئن علي تحقيق غايته أو انتهاء أزمته.
نعم كان فاروق عبدالعزيز هو الأب الروحي لأبناء دار التحرير.. ابتداء من عمال الخدمات المناوبة والسائقين في الجراج. والمندوبين في الإعلانات والمحاسبين في الإدارة. وحتي رؤساء مجالس الإدارة والتحرير. علي مدار نصف قرن.. فهل يمكن أن نتخيل "الجمهورية" بدون الأب الذي كان يعتبر كل واحد في المؤسسة "توأم روحه"؟!!
ظل يصارع المرض لسنوات.. تحداه ولم يرهبه السرطان.. وتحمل آلامه بابتسامته المعهودة.. وكان علي لسانه دائماً "قول يا رب".. تتعجب من سماحته حتي مع من يسيئون إليه.. ومن بشاشته في وجه من يتطاول عليه لأنه "الكبير". والجميع هم أولاده.. وهو لا يعرف سوي الكرم والجود والخير.
لم يتأخر أبداً عن مساعدة أحد.. ليس في "الجمهورية" وحدها.. ولكن كل من يعملون في بلاط صاحبة الجلالة بمختلف المؤسسات الصحفية.. باعتباره عميد محرري الطاقة في مصر.. وعلي علاقة وثيقة وطيبة بالعاملين في الكهرباء والبترول.. ورافق معظم القيادات بالوزارتين لأكثر من 35 عاماً ويعرفهم شخصياً من بدايات مشوارهم الوظيفي ويقدرونه ويحترمونه.. لذلك لم يكن غريباً أن يصدر وزير البترول بياناً ينعي فيه فاروق عبدالعزيز.. وكذلك فعلت وزارة الكهرباء.
سيفتقد الكثيرون من الصحفيين "السند" برحيل الأب الروحي.. وسيترك غيابه فراغاً كبيراً في "الجمهورية".. فهو رمانة الميزان.. والرجل الذي لم يستطع أحد أن يكرهه. حتي من اختلفوا معه.. لأنه أحب الجميع فأحبوه.
رحم الله الحاج فاروق عبدالعزيز. وألهم كل تلاميذه وزملائه ومحبيه وأسرته وأهله الصبر والسلوان.