صالح ابراهيم
.. في رثاء الفارس النبيل "فاروق عبدالعزيز"
وأمة شهامة وحب .. علي جبال الألب
قد يعتبر الناس الذكريات كنزاً.. مليئاً بالدروس والخبرات. يمكن استرجاعها عند الحاجة. وربما الضرورة.. لحل مشكلة أو المساعدة في اتخاذ القرار السليم.. ولكن الكثير يعتبرونها حديقة أسرار مغلقة.. وينبغي أن تخرج من داخل العقل إلي الآخرين.. من باب أمانة المجالس.. أو خصوصية العلاقة.. أو تفرد التجربة.. وربما أنانية الاستحواذ.. والاعتقاد بأن الكيمياء التي تربط بين شخصين ما.. غير قابلة للتداول.. أو المزايدة والاستبدال.. إنها في المجموع انفتاح بين قلبين.. مشوار بُنيَ علي الحب والود والتقدير.. وإزالة الحواجز والوساوس.. إرادة تنصهر وتتدفق حاملة الخير بدون حقد أو حسد.. أو الدخول من نقطة ضعف. وما أكثرها عندما يصاب المرء بوهن العجز والشيخوخة.. وتضعف قدرته الكامنة.. لتضع النقاط علي الحروف.. بدمعة أو بابتسامة.. ربما نستطيع أن نجتهد لتوصيف علاقة صديقنا الراحل وزميلنا العزيز توأم الجميع. الذي رحل بعد أيام قليلة من الاحتفال التلقائي بعيد ميلاده إلي دار البقاء.. فاروق عبدالعزيز. الفارس الذي دانت له الكلمة.. بكل أخلاقياتها ومسئولياتها.. وتأثيرها علي مدي تجاوز الأربعين عاماً.. كان خلالها صحفياً رائعاً في مجال تخصصه.. الكهرباء والبترول.. آبار وومضات من الانفرادات.. وأعطاه الله سبحانه وتعالي أيضاً موهبة الإدارة المستنيرة الهادئة المقنعة للآخرين.. حيث كان مثالاً عظيماً لتحمل المسئولية والمبادرة.. في الحضور المبكر دون إجازات أسبوعية.. يبدأ عمله بخطة الأحداث المتوقعة.. ثم ينفذ بإخلاص ضرورات المتابعة والإشراف لتكليفات مجلس التحرير وكان باستطاعته في أي وقت تلبية نداء صاحبة الجلالة.. وربيبتها "الجمهورية" معشوقة الملايين ليزيد من رصيد الانفراد.
جمع حوله بقيمة العيش والملح. أجيالا وأجيالا من الشباب.. لم يبخل عليها بالتوجيه والتشجيع.. وكان أول من يدافع عنها عند الأزمة.. ويعيدها إلي طريق المستقبل والنجاح.. إنه الفارس الذي امتلك ناصية العمل الصحفي. رغم تخرجه في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية.. وامتزج ضميره بحب الوطن ومصالحه العليا.. دون مزايدة.. أو تقاعس.. أدرك أخلاقيات الكلمة ووضعها معياراً أساسياً للتقييم والصعود إلي الأمام في سلم صاحبة الجلالة.. ومع كل ترقية. ظل بالنسبة للكبير والصغير.. توأم الروح الذي تؤمنه علي ما بداخلك من فكرة أو مشروع.. أو قرار. ويؤمن بأن جميع أصدقائه مروا من الدائرة.. الإخلاص والتفاني والقلب الأبيض.. لينضموا إلي كتيبة العمل في قسم الأخبار.. ولا يختلفون عن جلسات العيش والملح في الدور التاسع.. كل صباح. مهما كان القسم الذي انتقلوا إليه.
لي أكثر من تجربة مع صديقي فاروق عبدالعزيز وشهامته.. حصل أغربها يوم كنا معاً في النمسا مع أوائل الجمهورية.. خفت من ركوب التلفريك المكشوف. لنعبر جبال الألب إلي أشهر مطعم سياحي هناك.. لجأت لما أفهمه من لغة ألمانية.. وطلبت أن أصعد للمطعم عبر الطريق الضيق في الغابة. معتمداً علي الإشارات والإرشادات.. فوجئت به مصمماً علي أن يصحبني في رحلة المجهول ثلاث ساعات كاملة.. يمر بين مناطق بكر لا يرتادها سوي هواة المغامرات.. يلطف بنا القدر.. نجد أمامنا المطعم علي مدي البصر.. وأعضاء البعثة يلعبون الكرة في انتظار وجبة الطعام.. ولم يتركني فاروق إلا بعد وعد من مدير المكان كي يحملني معه عند العودة في سيارته الفولكس. متحملة المشاق.. حادث لا يُنسَي.. وفارس لا يعوض.. وقطار يمضي بنا اليوم.. وبدوننا غداً.. ليظل سلوكيات التوأم فاروق عبدالعزيز. كنزاً غالياً لمن يريد أن يتعلم قيمة الحب والشهامة والوفاء.