الدستور
د . أحمد الخميسى
محمود درويش.. شاعر لا يموت
فى ٩ أغسطس الحالى حلت ذكرى رحيل محمود درويش التاسعة. لم يعش الشاعر العظيم طويلا فقد فارقنا بعد عملية قلب مفتوح، ولم يتجاوز السابعة والستين. والسنوات التى أخفى الموت فيها شاعرنا كانت سنوات حضوره الأكبر، فقد تأكد خلالها أن درويش كان وما زال أحد أعظم شعراء العربية وأكبرهم أثرًا فى النصف الثانى من القرن العشرين.
وقد اكتسب درويش مكانته العالية هذه ليس فقط بفضل إنجازاته فى تطوير الشعر العربى، بل لأن تلك الإنجازات الفنية ارتبطت بقضية تاريخية ضخمة هى قضية تحرر الشعب الفلسطينى التى أمست عند درويش تعبيرًا عن كل شعب محتل، وعن توق الإنسانية أينما كانت للحرية. فى مرحلته الشعرية الأولى حين كان درويش داخل فلسطين كتب «سجل أنا عربى»، و«بين ريتا وعيونى بندقية» واتسم شعره بسطوة الخطاب النضالى.
فى تلك السنوات وحتى ١٩٧٠ تقريبًا عرفته الثقافة العربية شاعرًا مقاتلًا ملتزمًا إلى حد ما بالرؤية الماركسية. وانتقل درويش إلى مرحلة ثانية مع خروجه من فلسطين تلمس فيها الحلم القومى العربى حتى عام ١٩٨٣عندما أجبر الحصار الإسرائيلى وحزب الكتائب الفلسطينيين على مغادرة بيروت. بعدها انتقل درويش إلى البحث عن شعبه داخل عالمه الذاتى، بعد أن كان يبحث عن ذاته داخل شعبه، ولهذا حين كتب فى مرحلته ما بعد بيروت: «اخرجوا من أرضنا.. من برنا.. من بحرنا.. من قمحنا.. من ملحنا.. من جرحنا»! كانت قيثارته ما زالت صداحة، لكن تغلب الحزن عليها، وكاد الألم يهزم الأمل فى أوتارها. شعراء قليلون فى تاريخ الثقافة هم من استطاعوا أن يصبحوا رمزًا عامًا، مثل بابلو نيرودا، ومايكوفسكى، وناظم حكمت، ولوركا، وأيضًا محمود درويش.
وقد أصبحوا رموزًا إنسانية بفضل ارتباطهم بقضايا كبرى، حتى عندما كان اليأس يصيب بعضهم، كما حدث مع درويش، فانقضت عليه أقلام تهاجمه لتأييده لاتفاقيات «أوسلو» ومشاركته فى حوار علنى مع مثقفى «المابام» الإسرائيلى، وغير ذلك. لكن كل مثقف شريف يستطيع أن يتفهم مشاعر اليأس والإحباط فى قضية معقدة، مثل قضية فلسطين فى مرحلة معقدة انحسرت فيها أصوات الكفاح المسلح وأصوات البنادق وتدهورت أوضاع المنطقة العربية إلى حد الاعتراف بالكيان الصهيونى. أستطيع أن أتفهم ذلك رغم اعتقادى الراسخ أن فلسطين لا بد أن تعود كاملة لشعبها مهما طال الزمن وأن تحريرها بالمقاومة سيظل الحل الإنسانى الوحيد لكل الأطراف. إلا أن قيمة محمود درويش الكبرى ستبقى فى شعره المشبع بالدعوة لتحرير الوطن، والإنسان.
من غير درويش قادر على أن يكتب: «أيها المارون بين الكلمات العابرة، أيها المارون فى الكلمات العابرة، احملوا أسماءكم وانصرفوا، واسحبوا ساعاتكم من وقتنا وانصرفوا، وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة، وخذوا ما شئتم من صور، كى تعرفوا، أنكم لن تعرفوا كيف يبنى حجر من أرضنا سقف السماء.. فاخرجوا من أرضنا.. من برنا.. من بحرنا.. من قمحنا.. من ملحنا.. من جرحنا!». فى قصائد درويش العظيمة تكمن كل رحلته، وكل عشقه لفلسطين وللحرية، التى تغنى بها طيلة عمره. ولن يبقى من الشاعر الراحل الكبير موقف سياسى عابر اشترك فيه مع الآلاف، لكن سيبقى منه كل ما امتاز به عن الآلاف، أى قصائده التى مجدت الجمال، والحرية، والحب، وكل المعانى النبيلة. لم يكن ما فارقنا مجرد شاعر بل خريطة وطن، وخريطة شعر.
بعض القصائد تسوقنا للأحلام، وبعضها يردنا إلى الواقع، لكن وفى كل الحالات لا يمكن للشاعر الحقيقى أن يتخلى عما هو جوهرى لكل فن ألا وهو النزاهة التى تحكم ما تخطه يداه.
وقد كتب درويش كل قصيدة من قصائده بنزاهة ضمير وروح لا تبارى، أيًا كان مذهب تلك القصيدة فنيًا أو سياسيًا، وعاش درويش أشبه ما يكون بصارى السفينة، الذى يتقدمها، وهى تشق العاصفة، وعلى شراعه فى الريح منقوش اسم «فلسطين» بمختلف القصائد، ومختلف المحبات، ومختلف الأحزان، ومختلف الأزمنة، ومختلف الدموع، ومختلف الضحكات، لأن «على الأرض ما يستحق الحياة»، وما يستحق الحياة يستحق كل ذلك. من حق فلسطين أن تفخر بشاعرها، ومن حق درويش أن يفخر بشعبه الفلسطينى الذى تبزغ فى أرضه معجزات البطولة كل يوم، وكل ساعة، الشعب الوحيد فى تاريخ العالم الذى امتد كفاحه من القرن العشرين إلى القرن الحادى والعشرين، ليمسى ملحمة نضال لا تتكرر فى سجل الإنسانية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف