المصريون
جمال سلطان
ذكرى رابعة .. نزيف الوطن المتجدد
سيبقى تاريخ الرابع عشر من أغسطس من كل عام ذكرى كئيبة لأبشع حادثة سياسية في تاريخ مصر الحديث ، حيث قتل ما بين سبعمائة إلى ألف ومائة مواطن مصري في ميدان رابعة العدوية في قلب القاهرة عام 2013 ، حسب الاختلاف بين رواية كل طرف للعدد ، حيث كان عدد كبير من أنصار الرئيس الأسبق محمد مرسي يعتصمون احتجاجا على عزله عن رئاسة الجمهورية وتنصيب المستشار عدلي منصور رئيسا للجمهورية مع حزمة إجراءات باعتقالات واسعة في صفوف الإخوان ومؤيديهم وإغلاق عدد من القنوات الفضائية وغلق صحف ونحو ذلك .
انقسامات الرأي والموقف تجاه المذبحة مرتبط بانقسامات الموقف السياسي نفسه الذي تعيشه مصر منذ يوليو 2013 ، فالخطاب الذي يقدمه أنصار مرسي عن المذبحة يختلف كثيرا عن الخطاب الذي يقدمه أنصار السيسي ، الأولون يتحدثون عن جريمة مقصودة ومخططة ومذبحة راح ضحيتها أكثر من ألف إنسان واستخدمت فيها أسلحة ومدرعات ونيران لا تتكافأ مع الاعتصام السلمي ، وأنه لا توجد تحقيقات في الواقعة حتى الآن ، والآخرون يتحدثون عن تحدي جماعة الإخوان وأنصارها للسلطة الجديدة وتهديدها للبلاد وخطاب عنيف يتوعد قطاعات كثيرة في المجتمع والدولة واعتصام كبير طويل الأمد عطل مصالح الناس ومثل حرجا شديدا للسلطات وكان يوجد بين المعتصمين مجموعات مسلحة ، وكان لا بد من فضه .
بين أنصار الإخوان وأنصار السيسي هناك قطاع متزايد من السياسيين المستقلين والنشطاء والحقوقيين والقوى المنتمية لثورة يناير ، يتخذ موقفا وسطا بين الفريقين ، ولكنه ينحاز أخلاقيا وسياسيا إلى إدانة ما جرى ويطالب بتحقيقات عادلة وإنصاف الضحايا وتعويض ذويهم ، وهذا الجدل بين الأطياف الثلاثة يتجدد سنويا في مثل هذا اليوم ، ومن الصعب تصور أن يختفي هذا الجدل خاصة في ظل استمرار حالة الانقسام الوطني والاحتقان البالغ الذي يعصف بعقول ووجدانات ملايين المصريين ، إذ من المؤكد أن حل مشكلة مذبحة رابعة أو حتى التحقيق فيها مرتبط بمجمل الوضع السياسي ، ولن يحدث إلا وفق حزمة من الإجراءات السياسية والقانونية والإنسانية تشمل التمهيد للمصالحة الوطنية .
مذبحة رابعة لم تكن مسبوقة في تاريخ مصر كله بالفعل ، وأشهر المذابح التي عانت منها مصر وسجلتها كتب التاريخ وحتى الكتب المدرسية التي كان الطلاب يدرسونها ، هما مذبحة دنشواي على يد الاحتلال الانجليزي وأعدم فيها حوالي سبعة من الفلاحين المصريين بتهمة قتل ضابط انجليزي ، ومذبحة بحر البقر التي قصفت فيها طائرات العدو الإسرائيلي مدرسة بحر البقر بالقرب من بورسعيد فقتل حوالي عشرين تلميذا ونشرت صورهم وصور كراساتهم وكتبهم المبعثرة والملطخة بالدم ، وبقيت "مذبحة دنشواي" ومذبحة "بحر البقر" محفورتين في الذاكرة الوطنية دلالة على البشاعة حتى كانت مذبحة رابعة التي أنست الناس كل ما سبقها ، نظرا لضخامة الضحايا وارتباطها بأزمة سياسية طاحنة .
يخطئ النظام السياسي الحالي إذا تصور أنه يمكن أن يدفن تلك الذكرى بحملات إعلامية ، أو بالتجاهل ، فهي أكبر من ذلك كثيرا ، كما أنها كانت واقعة مصورة بالصوت والصورة والأفلام منتشرة على نطاق عالمي واسع ، وهناك مطالبات دولية بالتحقيق ، وتعليق أمره حتى الآن يضر بصورة النظام وبموقفه في تلك الأحداث قطعا ، كما أن أنصار مرسي يخطئون كثيرا عندما يستخدمون تلك المذبحة لتشويه خصومهم السياسيين ، وخاصة من قوى ثورة يناير التي اختلف مع مرسي وعارضته وطالبت بإسقاطه ، فتصوير كل من عارض مرسي أو طالب بإسقاطه أنه مشارك في المذبحة هو هستيريا وانتهازية سياسية تتاجر بالدم لحسابات خاصة ، كما أن الذين طالبوا بفض الاعتصام لم يكونوا يتصورون أن يكون بتلك الدموية وهذا العدد الكبير من الضحايا ، فقد كانت هناك مشاعر قلق حقيقية في القوى المختلفة مما تضمره جماعة الإخوان تجاه الباقين وتجاه الدولة ، خاصة وأن الخطاب الذي انتشر على منصة رابعة كان عنيفا وتهديديا ويفتقر إلى أي حصافة سياسية .
في هذا الوقت من كل عام ، لا نملك إلا الترحم على الضحايا الذين قضوا نتيجة تلك المجابهة الدموية الفادحة ، ونسأل الله أن يعوض أهلهم خيرا ، وأن تصل ظلال العدالة إلى تلك الواقعة بشكل جدي وشفاف ، لكي ينال كل مخطئ جزاءه ، وكل مظلوم حقه ، ولكي يتمكن الوطن من طي تلك الصفحة الحزينة من تاريخه ، ليتفرغ للمصالحة الوطنية والاحتشاد من أجل البناء ووضع البلاد على مسار صحيح ، سياسيا واقتصاديا وتنمويا .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف