جمال سلطان
نسائم صيف .. بين جلال كشك ولويس عوض
كنت في شبابي مغرما بالكاتب الراحل الكبير محمد جلال كشك ، وما زلت ، كان الرجل طاقة صحفية وفكرية مذهلة ، ولديه صبر ودأب على القراءة والكتابة بشكل تحار فيه العقول ، ويكفي أنه كان يقرأ كتب الراحل الكبير أيضا محمد حسنين هيكل ويجري مقارنات صبورة بين ما يكتبه هيكل في النسخة الانجليزية التي تصدر للتسويق الخارجي وما يكتبه في النسخة العربية ، ليكشف عن تناقضات في الروايتين ، وهو جهد صعب للغاية ، كما كان كتابه المهم "ودخلت الخيل الأزهر" أهم موسوعة حديثة في تسجيل جرائم الغزو الفرنسي لمصر ، والعملاء الذين خدموه في الداخل ، والكتاب أثار ضجة في حينه ، كما كان كتاباه : كلمتي للمغفلين ، وثورة يوليو الأمريكية ، من أخطر الكتب التي صدرت عن تجربة ثورة يوليو وعبد الناصر ، وهو ما قلب عليه القوميون والناصريون بشدة ، وهو كان يبادلهم كراهية بكراهية وله كتابات أخرى في هذه المعارك .
لذلك كانت سعادتي كبيرة عندما قدمتني له الكاتبة الكبيرة صافي ناز كاظم ، خاصة عندما أعجب بكتاب لي صدر في أول التسعينات الماضية ، وكان مندهشا أن كاتبا شابا يكتب بتلك اللغة والمعلومات ، ودعاني لزيارته في شقته بالزمالك وأكرمني كرما حاتميا مما جعلني أحكي تلك "العزومة" الفاخرة لصافي ناز على سبيل التباهي ، فلما بلغه غضب ، واعتبر أن "العزومة" وما فيها من أسرار البيوت وأنني بذلك لم أحترم بروتوكل الزيارات ، فلم يكررها ثانية ، فخسرت الكثير من الحمام المحشي والمشوي وخلافه ، رغم أنه ـ رحمه الله ـ لم يكن يأكل إلا قليلا بسبب إصابته بالسكر وأمراض أخرى اجتمعت عليه .
جلال كشك ، مثل عبد الوهاب المسيري وعادل حسين وطارق البشري وجيل كبير من المثقفين المصريين ، بدأ حياته الفكرية والسياسية ماركسيا وكان من مؤسسي الحزب الشيوعي ، ثم تركه وتركهم وقدم نقدا عنيفا للماركسية ومنظماتها في الستينات ونشر سلسلة مقالات أزعجت الاتحاد السوفيتي ، حتى ردت عليه صحيفة البرافدا واعتبرت أن وجود جلال كشك في الصحافة المصرية هو إساءة للاتحاد السوفيتي ، فأوقفه عبد الناصر عن الكتابة وعن العمل كلية ثلاث سنوات كاملة ، ولم يعد إلا بعد النكسة ، فعاد إلى مؤسسة أخبار اليوم ، وكان قريبا من الفكر القومي ثم انتقده ، وقضى حقبة من حياته في بيروت في حالة لجوء اختياري بعد مضايقات عصر السادات ، حتى كانت الثمانينات حاسمة في توجهه إلى الفكرة الإسلامية ، والانحياز للإسلام كحضارة وهوية للأمة وشرط لنهضتها .
كان جلال كشك يجمع بين الجدية والصرامة في الكتابة وبين خفة الظل والصراحة في المواجهة ، وعندما ابتلي في سنواته الأخيرة بسرطان البروستاتا ، كان يتردد على لندن للعلاج والفحص ، وفي آخر زيارة طبية ، أجرى التحاليل ، فقال له الطبيب أن أمامه ما بين ثلاثة أشهر إلى ستة أشهر فقط في الدنيا ، ويومها كتب مقالا مؤثرا للغاية في مجلة أكتوبر ، وكان لها شأن في تلك الأوقات ، كان عنوانه "أنعي لكم نفسي" ، وحكى فيه ما جرى وأنه ينتظر الموت خلال ستة أشهر على الأكثر ، ويودع قراءه ، ورغم الحزن والمفاجأة ، إلا أنه لم يتخل عن خفة ظله في هذا المقال ، فحكى فيه أنه بعد أن استلم من المستشفى اللندني التحليل ، فوجئ باتصال يأتيه من شركة أمريكية متخصصة في "دفن الموتى" ، وقالوا له : مستر جلال نحن لدينا مقابر مميزة وبأسعار مناسبة ويمكن أن نحجز لك مقبرة تسرك !! ، وراح في المقال يلعن سلسفيل جدودهم ، ولم يمكث جلال كشك بعدها سوى ثلاثة أشهر فقط ، وكان من كرم الله به أن مات بأزمة قلبية وهو في مناظرة على الهواء ضد نصر حامد أبو زيد يدافع فيها عن رسول الله في وجه خطابات علمانية وغربية متطرفة ، فقبضت روحه وهو على هذه الحال .
كان جلال كشك مكروها من الناصريين ، وأيضا من المثقفين العلمانيين المتغربين ، ولذلك كان يكرهه بشدة الكاتب الكبير لويس عوض وكذلك غالي شكري ، خاصة وأنه في كتابه "ودخلت الخيل الأزهر" كشف عن دور "المعلم يعقوب" والفيلق القبطي الذي شكله للقتال بجوار الجيش الفرنسي الذي احتل مصر ، وكان لويس عوض يثني في كتاباته على "المعلم يعقوب" عميل الاحتلال الفرنسي ويعتبره بطلا ، وحدث أن حضر الاثنان : كشك ولويس ، مؤتمرا ثقافيا في العاصمة القطرية الدوحة ، فلما عادا إلى مصر اتصل لويس عوض بصافي ناز كاظم ، وقال لها في وشاية مقصودة : رأيت صاحبك جلال كشك في قطر ، كان بيقبض ! ، وصافي ناز ـ رغم خفة دمها ودماثة أخلاقها ـ معروف عنها الصراحة والميل إلى المواجهة ، فكان أن اتصلت بجلال كشك ، وقالت له إن لويس عوض يقول أنه قابلك في الدوحة ويقول أنك كنت هناك بتقبض ! ، فأجابها على الفور : طيب جلال كشك كان هناك بيقبض ، ولويس عوض كان هناك بيعمل إيه ، كان بيدفع ؟! .
تتفق أو تختلف مع جلال كشك ، الذي توفاه الله في العام 1993 ، إلا أنك لا يمكن أن تتجاهل أن الثقافة العربية والصحافة العربية خسرت بموته قلما جبارا ، وطاقة لا تكل ولا تمل من إثارة المعارك الفكرية والصحفية التي أحدثت استنارة حقيقية في جيل بكامله من المثقفين المصريين والعرب ، يرحمه الله .