الجمهورية
صلاح عطية
حديث الدور والقصور بين ريفنا.. وريف أوروبا
في مقالين سابقين اشرنا إلي اهمية التصنيع الزراعي في قرانا.. واهمية عودة القرية المصرية المنتجة.. واهمية تبني القري التي تشتهر بمنتجها الصناعي او الزراعي وتتخصص فيه.. ولكن لا احد يعرف عنها شيئاً.. ولا تصلها افواج من السياح تقتني منتجها وتسهم في انعاشها.. وتحدثنا ايضا عن اهمية السياحة الريفية.. وامكانية انتعاش هذا اللون من السياحة في ريفنا.. خصوصاً في دلتا مصر.. وايضا في صعيدها.. واشرنا إلي القصور والدور المنتشرة في محافظات مصر.. وامكانية استغلالها سياحيا.. وتحدثنا عن سلسلة البارادوراس في اسبانيا.. وهي سلسلة من المباني التاريخية منتشرة في اسبانيا من دور وقصور وقلاع ومستشفيات ومدارس قديمة.. وحتي سجون.. وجري تحويلها إلي فنادق من مختلف الدرجات تباع بأغلي الاسعار وتخطت منذ سنوات المائة فندق.. وتزداد اعدادها يوما بعد يوم كلما امكن اضافة مبني اثري آخر اليها بعد ان يحول إلي منشأة سياحية فندقية.. وطالبنا بأن تكون هناك جهة ما في مصر تتبني مشروعا مماثلا للحفاظ علي قصورنا ومبانينا التاريخية المنتشرة في انحاء مصر وتحويلها إلي فنادق تاريخية كما يحدث في اسبانيا وغير اسبانيا.
واود اليوم ان اضيف إلي ما ذكرت استخداما آخر لهذه الدور والقصور في نموذجين اقدمهما من انجلترا ومن فرنسا.
في لندن منذ عدة سنوات كنا وفدا صحفيا من عدة بلدان عربية دعينا لزيارتها من هيئة السياحة البريطانية.. كان برنامج الزيارة يتضمن عشاء خارج لندن.. في احدي المناطق الريفية خارج العاصمة البريطانية.. وعندما حان الوقت تحركنا جميعا في عدة سيارات في رحلة استغرقت نحو تسعين دقيقة.. كان الجو بالصدفة ممطرا.. وقطرات المطر تنهمر بشدة علي سيارتنا.. ثقيلة كأنها حصوات من حجر.. لم يذكر لنا مرافقنا إلي اين نتجه.. بل قال انها مفاجأة.. وبالفعل كانت مفاجأة.. وصلنا إلي مدخل قرية.. والامطار مازالت منهمرة.. والاضاءة باهتة.. ومن بعيد كان يبدو قصر يرتفع قليلا عن مستوي الطريق.. وتبدو اشجاره تهتز من رياح تتزامن مع الامطار.. وصلنا إلي باب القصر.. وفتحت بوابته ودخلت سيارتنا.. وعدة سيارات اخري تحمل باقي الزملاء.. وانتهت بنا السيارة إلي مدخل القصر.. وفي نهاية السلالم المؤدية إلي طابقه الارضي.. وقف من تبينا فيما بعد انه صاحب القصر.. ومعه زوجته.. يستقبلان الضيوف القادمين من لندن.. دخلنا إلي غرفة استقبال.. ومدفأة مشتعلة.. وكلبان كبيران رابضان إلي جوارها دون ان يتحركا.. فقد كان سيدها يرافقنا.. جلسنا إلي المدفأة نتناول مشروب تحية.. ونتبادل اطراف الحديث.. وبالصدفة كان الرجل قد زار مصر مرات عديدة.. فكانت فرصة لمراجعة ذكرياته عنها.. ثم حان موعد العشاء.. فقمنا إلي مائدة طويلة تضيئها شمعدانات تلقي اضوائها ظلالها علينا.. وبدأنا الطعام يشاركنا فيه صاحب القصر وزوجته.. وانتهينا منه لنجلس مرة ثانية حول المدفأة.. نتبادل احاديث شتي.. وعن بلدان شتي.. كان بيننا زملاء من السعودية ومن لبنان ومن الكويت ومن الامارات.. وانتهينا من الحديث ليحين موعد العودة إلي لندن.. والرجل يعتذر لنا عن الامطار التي منعته من ان يصحبنا في جولة في حديقة القصر..
ما هي المفاجأة في هذا؟ المفاجأة اننا جميعا اعتقدنا اننا كنا ضيوفا علي صاحب القصر.. وانه نوع من الخدمة يقدمها متطوعا ترويجا لسياحة بلده.. اعتقدنا هذا.. ولكن اتضح ان الامر غير ذلك تماما.. فقد كان هذا القصر واحدا من قصور عديدة حول لندن.. تعاقدت معها هيئة السياحةالبريطانية علي إقامة حفلات غدا او عشاء لضيوفها.. اي ان عشاءنا هذا كان مدفوعا لصاحب القصر.. ولم يكن فيه اي تطوع.
ما الحكمة في هذا؟.. هذه القصور تحتاج إلي اموال ضخمة لصيانتها والحفاظ عليها..وهي تراث يجب الحفاظ عليه.. ويجب كذلك استغلاله.. ومن هنا تكون هذه الوجبات المدفوعة التي تدر دخلا لأصحاب هذه القصور.. ما عرفته ايضا ان الامر لايقتصر فقط علي وجبات الطعام.. وانما ايضا يمكن استضافة بعض ضيوف هيئة السياحة البريطانية في هذه القصور.
نفس التجربة مررت بها في فرنسا ولكنها كانت هذه المرة في قصر خارج باريس.. وبنفس النظام الذي رأيته في لندن.. ولكن اختيار الغداء لنا في هذا القصر في الريف الفرنسي وفي يوم غير ممطر اتاح لنا ان نتعرف علي جوانب استغلال هذه القصور.. فقد كان القصر يموج بزوار كثيرين غيرنا.. كان القصر يوفر فرصة مزاولة ركوب الخيل.. وكان يضم ايضا متحفا اقامته صاحبة القصر..كانت سيدة ارملة هذه المرة.. للتحف التي كان يضمها القصر..وايضا لتاريخ بناء القصر وتاريخ العائلة التي تنحدر منها صاحبة القصر.. ومع المتحف محل صغير يبيع لزواره وزوار القصر تذكارات عن القصر ومستنسخات من التحف او اللوحات الزيتية التي يضمها لمشاهير الرسامين.. وكان القصر معدا كذلك للاقامة في احد اجنحته لمن تختارهم هيئة السياحة الفرنسية.. او لضيوف يختارونه من بين دليل لقصور مماثلة تنتشر في الريف الفرنسي.
هكذا يستغلون قصورهم استغلالا يحافظ عليها.. ويمنحها فرصة البقاء.. لان بقاء الأثر هو في استخدامه.. اما عدم استخدامه فإنه يصيبه بالموت.. ومازلت أتذكر في هذا الشأن كلمات للراحل العالم الأثري العظيم الدكتور عبدالحليم نور الدين. يقول فيها ان بقاء الآثر وحياته في استخدامه.. ولكن بطبيعة الحال ثم يكن يعني سوء استخدامه كما يحدث في آثارنا الاسلامية من ساعة انتشرت علي واجهاتها المحلات التي شوهتها.. ولعله من هذه الزاوية كان يقول ايضاً ان الارض احن علي الأثر منا.. بمعني ان وجود الأثر تحت الارض يحفظه لنا.. ولكن بمجرد استخراجه من تحت الارض تبدأ مشاكل كثيرة في كيفية ترميمه والحفاظ عليه من السرقة او الدمار وحسن ترميمه واستخدامه.. وهذه علي اي حال قصة اخري.
نعود إلي موضوع الدور والقصور في ريفنا وكيفية المحافظة عليها واستغلالها وانشاء شركة قابضة لادارة هذه الدور والقصور بعد اعادة تهيئتها لهذا الهدف..كما في تجربة اسبانيا وسلسلة البارادوراس..او كما في التجربة البريطانية والفرنسية.. باستغلال هذه الدور او القصور سياحيا بمعرفة اصحابها.. وبالتعاون مع هيئات السياحة..والسؤال هو في كل الاحوال هل يقبل اصحاب الدور او القصور في ريفنا وفي مدننا بالمشاركة في مثل هذه الشركة بأصولهم.. او تطبيق التجربة البريطانية او الفرنسية بأن يتولي اصحاب هذه الدور او القصور ادارتها بمعرفتهم بالتعاون مع هيئات السياحة او حتي بالتعاون مع بعض المشروعات السياحية الاخري؟ هذا هو السؤال.. ولكن يبقي في كل الاحوال اماكن اخري تاريخية وأثرية مملوكة للدولة.. يمكن اعادة تأهيلها سياحيا.. وهذه مرة ثانية قصة اخري.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف