تعرض مفهوم «الجهاد» لعملية تشويه من قبل أصحاب الفكر المتطرف، أخرجته عن السياق الصحيح، بعد أن صوروه على أن المقصود به القتال، وحصروه فى هذا المعنى الضيق، على الرغم من أنه أوسع من ذلك بكثير.
وشاع القتل واستباحة الدماء، تحت مسمى الجهاد، نتيجة الفهم المغلوط، والاستدلال الخطأ ببعض آيات القرآن، ومنها: «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» و«فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ»، بعد أن ذهبوا- وفقًا لتفسيرهم- إلى ضرورة قتل غير المسلمين الذين اختلفوا معهم أو حتى ظلموهم. ومن الخطأ اجتزاء آية واحدة من القرآن فى موضوع الجهاد، من غير أن تجمع وتفهم باقى الآيات المتعلقة بنفس الموضوع، حتى تخرج بجملة مفيدة متكاملة، بشكل معتدل وسطى بلا تطرف، إذ لا يصح الاستدلال بجزء من الآية، وترك الجزء الآخر، فهو من الظلم البين للقرآن، ولابد من تفسيره جملة واحدة قبل إطلاق الأحكام وتعميمها، لأن تجزئته تشوه أهدافه، فينتج عن ذلك الأفكار المتطرفة.
لا قتال إلا لدفع الاعتداء.. والحرب آخر الخيارات المشروعة بشرط أن تكون معركة عادلة بين جيشين لدولتين
الجهاد- وفقًا للمفهوم الأوسع والأشمل- هو بذل الجهد فى كل عمل لله، وانطلاقًا من ذلك، فالعمل جهاد، السعى على الرزق جهاد، إطعام الأولاد وتربيتهم جهاد، طلب العلم جهاد، كل عمل كان لله خالصًا من القلب جهاد، وكل من يخرج بنية العمل، فهو فى سبيل الله.
أما القتال، فله ضوابط وشروط محددة، ولم يأتِ الحديث عنه فى القرآن إلا عن معركة عادلة بين جيشين: «وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا»، والمقصود هنا القرآن، وليس السلاح.
وتنطلق التنظيمات المتطرفة- كما سبق أن أشرنا- فى رؤيتها إلى مفهوم الجهاد من مجموعة آيات تتكلم عن القتال دون قراءة النصوص القرآنية كلها كوحدة بنائية واحدة، فى حين أن للجهاد شروطًا يمكن إجمالها فى ٥ مراحل:
المرحلة الأولى: «وَقَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ»، فالله- تعالى- قيد القتال هنا بقيد شديد هو الاعتداء، فلا يكون إلا لدفع الاعتداء، أما إذا بادرت بالقتال فقد صرت معتديًا، وخرجت عن حدود أمر الله، فالقتال المشروع فى الإسلام لا يكون إلا لدفع الاعتداء.
المرحلة الثانية: هناك شرط دقيق وضعه الله، ولا يمكن بحال تجاوزه، تحت أى مبرر، وهو أنك لا تعتدى إلا على ذات من اعتدى عليك: «فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ»، فإذا قتلت إنسانًا أعزل أو بريئًا أو ليس له علاقة، فدمه يكون فى رقبتك يوم القيامة، ويغضب الله عليك، لأنك أزهقت دم إنسان بغير وجه حق: «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى».
المرحلة الثالثة: إذا حصل الاعتداء وعرفت المعتدى، فالأصل هو اعتماد الوسائل السلمية فى رد الحقوق، حيث تكون الحرب آخر الحلول، لأن السلم فى الإسلام هو الأصل والحرب هى الاستثناء: «ادْخُلُوا فِى السِّلْمِ كَافَّةً»، أى: «اطرق كل أبواب السلام، وأغلق كل أبواب الصراع».
المرحلة الرابعة: إذا لم تفلح كل الحلول والوسائل السلمية، وليس هناك من حل إلا الحرب، هنا يكون القتال فى تلك الحالة مشروعًا لرد الاعتداء، لكن بشرط أن تكون معركة عادلة بين جيشين لدولتين، وليس للأفراد، وإلا حدثت الفوضى، وشاع الفساد: «وَلَا تَعْثَوْا فِى الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ»، وهنا مثل أى دولة تدخل حرب، يأتى الأمر بل التحريض على القتال العادل: «يَا أَيُّهَا النَّبِىّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ»، و«وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ».
المرحلة الخامسة: الجهاد فى الإسلام أكبر وأعم من مجرد القتال، الجهاد بذل الجهد من أجل إصلاح الأرض، ونحن نحتاج الآن إلى الجهاد البنائ لنبنى، ونعمر، وننجح، ونعيش حياة كريمة.
جهاد الصحابة سعى وابتغاء فضل الله.. والفتوحات الإسلامية «استثناء»
عن ابن أبى ليلى، عن كعب بن عجرة، قال: مر على النبى- صلى الله عليه وسلم- رجل، فرأى أصحاب رسول الله من جلده ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله: لو كان هذا فى سبيل الله؟ فقال رسول الله: «إن كان خرج يسعى على ولده صغارًا، فهو فى سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين، فهو فى سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه يعفها فهو فى سبيل الله، وإن كان خرج رياء ومفاخرة، فهو فى سبيل الشيطان».
وكان عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- يقدم درجة الكسب على درجة الجهاد، فيقول: لأن أموت بين شعبتى رحلى أضرب الأرض أبتغى من فضل الله أحب إلى من أن أقتل مجاهدًا فى سبيل الله، لأن الله- تعالى- قدم الذين يضربون فى الأرض يبتغون من فضله على المجاهدين بقوله: «وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ».
وعلى ضوء هذا يتضح المنهج الإسلامى المرسوم لأتباعه، بأنه يحثهم على توزيع قواهم بين العمل للدنيا، بحيث لا يتركون فراغًا فى دنياهم، والعمل للدين، بحيث لا يهملون مبادئ دينهم، وبذلك يكونون قد استجابوا لله: «وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ»، إنه دين التوازن والوسطية والاعتدال، دنيا وآخرة، عملا وعبادة، متجرًا ومسجدًا.
وبالنظر إلى الفتوحات الإسلامية نجد أنها كانت فى الأصل لمواجهة الخطر الذى كان يحيط بالدولة الإسلامية الوليدة وقتها، ليقضى عليها، وكان ذلك فى عهد النبى- صلى الله عليه وسلم- حتى إن عمر نفسه أيام النبى لما جاء أحدهم ليناديه، وهو نائم قال: «أهاجمتنا الروم؟»، والنبى وهو فى سكرات الموت يقول: «أنقذوا جيش أسامة»، لأنهم كانوا يستعدون لمهاجمة المدينة، وكان هناك تهديد عسكرى يحيط بالدولة وقتها.
والفرس والروم لم يكونوا أصحاب البلاد فى مصر والعراق والشام، بل كانوا محتلين ظالمين، والمسلمون لم يحاربوا أهل البلاد، بل حاربوا المحتل، ورفعوا الظلم عن أهلها، ثم قالوا لهم: «لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ».
كما أن القرآن حدد شكل العلاقة مع الآخر فى قوله: «لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ».
تصحيح الفهم الخطأ لحديث «أمرت أن أقاتل الناس»
كيف نفهم حديث النبى- صلى الله عليه وسلم-: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله». أليس الحديث دعوة صريحة لقتال الناس- كل الناس حتى يسلموا، حتى إن دعاة العنف يُشرعون لعنفهم بناءً على هذا الحديث.
الرد فى عدة نقاط:
أولًا- الحديث يتعارض مع نصوص قرآنية محكمة قطعية الدلالة، مثل قول الله- تعالى-: «لا إكراه فى الدين»، وهى آية محكمة غير منسوخة، و«وقاتلوا فى سبيل اللــــه الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين»، و«وإن جنحوا للسلم فاجنح لها»، وكلها آيات بمثابة إعلان عالمى للسلام، فالأصل فى العلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم السلام، وليس الحرب.
ثانيًا- إذن فما تفسير الحديث؟
كلمة الناس فى اللغة يُقصد بها كل الناس، كما يقصد بها مجموعة من الناس وليس الكل، كما يقصد بها الواحد فقط، مثل قول الله- تعالى-: «الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم»، والمقصود هنا قريش الذين حاربوا النبى- صلى الله عليه وسلم- فالنبى يقول وكأنه يقرأ المستقبل: «إن قريشًا لن تنهى الصراع، وستصر على الحرب إلى أن يسلموا»، وبالتالى فليس الحديث هنا عن كل البشر، ولكن عند قريش فقط.
لذلك عبارة «الناس» فى الحديث تعنى مشركى قريش المصرّين على الحرب، وعبارة: «أقاتل» التى وردت فى الحديث تعنى أنه لن يستسلم أمام إصرارهم على القتال، بمعنى «إن قاتلونا قاتلناهم»، لأن الله نهانا أن نبدأ أحدا بقتال: «ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين».
ثالثا وأخيرا- الإسلام دين السلام وليس دين الحرب: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِى السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ». اطرق دائما كل أبواب السلام وأغلق كل أبواب الصراع.. عندها ستكون مؤمنًا حقًا.
النبى أحدث ثورة شاملة بـ1018 قتيلًا فقط
أحدث النبى فى ٢٣ سنة تغييرا عميقا غير مسبوق فى تاريخ البشرية، تغييرا اجتماعيا شاملا، تغييرا أخلاقيا هائلا، تغييرا كليا فى العقيدة، تعديلا جذريا فى وضع المرأة، من الوأد إلى القيادة، نهضة علمية هائلة وصلت أوروبا عن طريق الأندلس، جمع العرب كلهم وأسقط المسلمون إمبراطوريتى الفرس والروم.
لكن العجيب أن كل ذلك تم بتكلفة قليلة جدًا، وبحجم تضحيات فى الأرواح محدودة للغاية.
- هل تعلم مثلًا أن عدد غزوات النبى ٢٧ غزوة، إجمالى عدد قتلى المسلمين فيها ٢٥٩، وإجمالى عدد قتلى المحاربين له ٧٥٩، أى أن إجمالى القتلى فى كل معارك النبى ١٠١٨ بمعدل ١٢ قتيلا فى كل معركة، وقتلت من النساء واحدة، وقتل من الأطفال والشيوخ «صفر».
- كيف حدث ذلك؟ لأن النبى حول الحروب الطويلة لاستراتيجية عسكرية جديدة، اسمها «غزوة»، ومعنى «الغزوة» ساعات قليلة، فإجمالى عدد ساعات الحرب لـ٢٧ غزوة كان ٤٢ ساعة فقط، ولا توجد معركة استمرت أكثر من ٥ ساعات، ففرض النبى طريقة عسكرية إبداعية جديدة، ليقل القتلى من الطرفين.
- قارن ذلك بالحروب فى عصره، ومن بينها حرب الروم والفرس من ٦٠٢ إلى ٦٢٨ م: ٢ مليون قتيل، وهناك أيضا حرب الصين من ٧٣٤ إلى ٧٥٥م: ١٢ مليون قتيل، وحرب الفجار: ٦ حروب بـ١٠٠ ألف قتيل.
- الثورة الفرنسية لتحدث تغييرا اجتماعيا وسياسيا: ٢ مليون قتيل. الثورة البلشفية فى روسيا: ١٣ مليونا. أما الرسول- عليه الصلاة والسلام- فحقق إعظم إنجاز بأقل تكلفة: ١٠١٨. إنه نبى الرحمة والتسامح.
منذ مولد النبى، وما تعرض له من اضطهاد وإيذاء قريش له إلى هجرته إلى انتصاره إلى وفاته، كانت حياته وكل اختياراته كلها السلام والرحمة والتسامح.. رفض أى عنف أو صدام فى مكة، لأنه مؤمن بالسلام. لا عنف فى الإسلام.. ستقول النبى لم يكن قويا بمكة. وكان لا يملك القوة لهذا لم يلجأ للصدام.
لا مكة مجتمع قبلى وهو من أقوى فرع فى قريش «بنى هاشم»، لكنه لم يستغل هذه النقطة للصراع حتى لا يفكك بلدته، وتكون الحرب الأهلية بين أهل بلده، بل تحمل الإيذاء فقط، ولم يلجأ للعنف، وفى المدينة لم يذهب لقتال قريش، لكن هم الذين جاءوا إليه، و«بدر» كانت على حدود المدينة و«أحد» و«الخندق» أيضا.
بدأ: «وأنذر عشيرتك الأقربين»، وانتهى بـ«اذهبوا فأنتم الطلقاء»، لذلك الإسلام دين السلام وليس دين العنف، ودين الرحمة والسلام، والجهاد لم يشرع فى الإسلام إلا لرد الاعتداء وفق قانون محكم عادل، وشروط محددة، فليس لأحد أيا كان أن يعطى لنفسه الحق فى ممارسته، دون التقيد بالضوابط، وإلا سادت الفوضى العارمة، وزهقت أرواح كثيرة من الأبرياء، تحت مسمى «الجهاد».