المصريون
جمال سلطان
نسائم صيف .. بين المسيري وجلال أمين
كان ذلك في العام 2004 أو ما يقارب ذلك ، في بيت الصديق الراحل الكبير الدكتور عبد الوهاب المسيري ، وكنت في ذلك الوقت قد اقتربت منه أكثر من أي وقت مضى ، كان قد فرغ من إنجاز موسوعته عن اليهود واليهودية والصهيونية ، وهي التي أثارت ضجة وقتها وحظيت بقبول واسع ، وفيها جهد ربع قرن تقريبا ، ساهم فيها عدد من طلابه ومحبيه ، ما إن فرغ من إنجازها حتى ظهر عليه المرض الشديد في النخاع الشوكي لظهره رغم أن المرض كان موجودا قبلها بسنوات ، وكنت أقول له يومها أن الحكمة الإلهية اقتضت حبس آثار المرض حتى تنجز مهمتك ومشروع عمرك ، وقد يسر الله لي في ذلك الوقت ، مع صديق مثقف ومترجم سعودي رقيق المشاعر ومحب للمسيري يعمل في شركة أرامكو النفطية الشهيرة ، أن نجد سبيلا وفرنا من خلاله للمسيري تكاليف المرحلة الأولى من العلاج في أمريكا بعد أن خذلته الحكومة المصرية وقتها ورفضت رئاسة الجمهورية مساعدته رغم أن صديقه "أسامة الباز" كان مستشارا لمبارك حينها ، وتلك قصة سيأتي ذكرها تفصيلا بعد ذلك بإذن الله ، وكان المسيري رافضا أن يعطينا الملف الطبي لكي يستعين به الصديق السعودي في البحث عن أحد يتحمل تكاليف علاجه ، ولكني أقسمت عليه أني لن أخرج من بيته إلا وأنا أحمل الملف الطبي ، كما قال له الصديق السعودي : أنت قامة فكرية عربية وإسلامية تمثل مسئولية للأمة كلها ، وكلنا مسئولون عن رعايتك صحيا على الأقل ، فرضخ في النهاية وسلمنا الملف .
كان المسيري يعقد في بيته ندوة ثقافية شهرية ، يكون المتحدث الرئيسي فيها شخصية معروفة لها إسهامها الفكري أو الثقافي المشهود ، وكان يحضرها أطياف مختلفة من أجيال مختلفة أيضا ، إسلاميين ويساريين وليبراليين ، وفي إحدى تلك الأمسيات الجميلة كان الضيف هو الدكتور جلال أمين ، وكان وقتها يعيش أجواء رائعة من المراجعات الفكرية العميقة التي نقلته من أقصى اليسار إلى ما يشبه الوسطية الليبرالية والمحافظة ، كما كانت له كتابات ينتصر فيها للأصالة وينتقد التغريب الفكري والقيمي الذي يعصف بالمجتمع وبالنخبة أيضا ، سواء في مجال الاستهلاك الترفي أو الاستهلاك الفكري ، وكان ما يقدمه مهما بالفعل ومؤثرا جدا ، وجعله ذلك مقربا على المستوى الروحي والشعوري والثقافي من التيار الإسلامي في حينه ، حتى كانت تلك الليلة .
بعد أن فرغ جلال أمين من كلمته أو محاضرته في الجلسة ، فتح المسيري الباب للنقاش والأسئلة والإضافات ، ففوجئ الحاضرون بشاب من الإسلاميين يوجه سؤالا لجلال أمين يقول فيه : يا دكتور جلال نحن نرحب بإعلان توبتك الفكرية ونريد أن نعرف متى بدأت التوبة وما الذي جذبك لها ؟! ، أمسكت رأسي حينها وأدرت وجهي للخلف إحباطا من مستوى الخشونة والغشومية في السؤال ، وأشفقت على جلال أمين المعروف بهدوئه وطول باله ، ولاحظت أن وجهه تغير ووجه كلامه لصاحب السؤال قائلا : يا ابني هو أنا كنت سرقت جوز حمام ومسكوني بيهم عشان تقولي تبت إمتى ؟! يا حبيبي هذه اجتهادات فكرية تنمو مع الإنسان وتنوع ثقافته وتجدد خبرته ، ولم أكن في جريمة أو عار لكي أتوب منه ، هذا نص ما قاله على ما أذكر أو قريب من ذلك ، وقد تابعت كتابات جلال أمين بعد ذلك ، وأزعم أن تلك الليلة كانت "شؤما" عليها ، وتوقفت تقريبا كتاباته في هذا الاتجاه ، كما قرأت له بعض المقالات كانت فيها قسوة غير معهودة على التيار الإسلامي وانقلب عليهم انقلابا قاسيا ، وكنت أعذره في ذلك ، لأن الإهانة جارحة ومستفزة ، ونحن بشر ، وإن كانت الأمور خفت بعد ذلك .
الملافظ سعد ، كان أهلنا يقولون ذلك للتعبير عن أهمية إحسان استخدام اللغة التي تخاطب بها الناس حتى لو كنت تقصد خيرا ، فالملافظ أو الألفاظ والتعبيرات أحيانا أهم من المعنى نفسه الذي تقصده ، وقد يؤدي اختيار "الملافظ" الخشنة والمتعجرفة إلى عكس النتيجة التي كنت ترتجيها من كلامك ، وقد تؤدي إلى فتنة الآخرين ودفعهم لاتخاذ مواقف عكس ما كان يعتمل في ضميرهم أو تستنفر في من تحدثه كوامن الغضب والكراهية والظلم ، وفي القرآن العظيم : (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) ، ومن يعمل في فضاء الفكر أو الاجتماع أو السياسة ، يلزمه إدراك خطورة "الملافظ" ، عندما يتعامل مع تحولات فكرية أو سياسية لدى الآخرين ، خاصة لو كانوا من أصحاب المكانة والرمزية في الفكر أو السياسة أو الاجتماع ، فمن نرى توجهه الفكري أو السياسي الجديد إيجابيا وداعما للخير والعدل والحرية ، فمسئوليتنا تشجعيه وتحفيزه واستثارة مكامن الخيرية في ضميره ، لا أن نصده عن السبيل وندفعه بالإهانة والتجريح للعناد والغضب ونضطره للتخندق في الصف المعطل لأشواق المجتمع للعدل والحرية ، ... والله أعلم
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف