لماذا هذا المقال؟.. سؤال يحتاج جوابا نتناوله فى هذا المقال وما بعده.. ليس بالنقد.. ولكن لاتخاذ العبر والتعلم من الإيجابيات وتجنب السلبيات قدر المستطاع.. فقد عشت عصورا نظامية مختلفة من الملكية للناصرية.. سبقتها لمحات لرجل لم يأخذ من الفطيرة ولو لقيمة، لم يذكره التاريخ، لا إنصافا ولا تعريفا، هو محمد نجيب، إلى عصر السادات ومبارك، ثم معا مع السيسى- وفقه الله.
هل كان عصر الملكية كله فسادا؟ وإذا ما قارناه بالملكيات التى لاتزال على قيد الحياة فى الشرق وفى الغرب، على حد سواء.. فهل تناولنا الملكية المصرية من منظور محايد بسلبياتها وإيجابياتها؟ وهل نتوقف عن إهالة التراب عليها؟.. لقد عشت سنوات الطفولة وأتذكر، كطفل، يوم أن كنا نخرج فى مظاهرات مع طلاب المدارس الثانوية، حيث لم تكن بصعيد مصر كليات أو معاهد علمية، بل كلها فى القاهرة، وتلتها الإسكندرية، وكان للتعليم شأنه، وقد نُفرد له مقالا مستقلا فى غير هذا الموضوع.. أكرر أننى لا أُدين عصرا، ولا فئة، بقدر الإشارة بالتلميح لكل عصر، بهدف التعلم والتصحيح. عشنا طفولة الملكية، وفى المظاهرات الطلابية كنا نتكلم بحرية، ولعل عبارة «إيكا إيكا هات أمك وأختك من أمريكا» خير برهان على الحرية.. وجيلنا ومن قبله يذكرون هذه العبارة الشهيرة وغيرها، ولم يكن للبوليس- كما كنا نطلق عليه- التدخل فى حريات الطلاب، كما لم يكن الطلاب مخربين أو مدمرين حتى لمقعد أو مصباح نور.
عشنا مرحلة هتفنا فيها ضد الإنجليز للرحيل عن بلادنا. ولم يتعرض أحد- على الأقل فى صعيد مصر، حيث ولدنا، وكبرنا- إلى مكروه.. وكانت القاهرة دولة أخرى بالنسبة للبسطاء من الطبقة الميسورة الحال، وليست لعلية القوم.
وخرج فاروق، وهتفنا لمحمد نجيب، وكتبنا له ونحن بعدُ أطفال، وكانت تأتينا ردود الرئاسة مصحوبة بصورة ذلك القائد. كما خرجنا إلى أرصفة محطات السكك الحديدية لتحية الرئيس محمد نجيب الذى اختفى بعد نحو عامين، ولم نعرف الأسباب، ولم نكن فى مراحل عمرية تسمح لنا بمتابعة الأسباب أو حتى ما آل إليه مصير ذلك الرجل فى حينه.
عشنا أيام الناصرية والساداتية والمباركية وعصر السيسى، وجميعهم مصريون وعسكريون خاضوا المعارك العديدة، وحملوا أكفانهم على أكتافهم من أجل الوطن.
ونعيش اليوم عصر السيسى، ولستُ هنا بصدد تحليل تلك العصور العسكرية، فلها إيجابياتها وسلبياتها، شأن كل العصور، ولكن لعلنا نتعلم من إيجابياتها فنكررها، ومن سلبياتها فنتجنبها أو على الأقل نفتش عن حلول للخروج من المآزق قدر المستطاع، بدل البكاء على اللبن المسكوب الذى يستحيل جمعه.
لقد عاش ناصر بطلا فى عيوننا رغم ضيق ذات اليد، فقد كنا نعرف أنها مرحلة البناء والتعمير والتحرير. التحرير من الاستعمار الذى كنا نشير إليه صدقا بالعار، فأممنا القناة، وبنينا السد العالى، وشددنا الأحزمة على البطون بالنسبة لكل المصريين قادة وشعبا، فلا باشاوات، ولا بكوات، ولكن الكل سيد فى وطنه، من القائد إلى أبسط البسطاء فى الشعب.
عرفنا تعيين كل الخريجين، بلا تمييز لابن الوزير عن ابن الخفير، حتى أبطل النظام وظهرت الكوسة قصيرة العمر، ولكنها تتمتع بالأولوية بين سائر أنواع الخضر من أمثالها. عرفنا التعليم الجامعى لأبناء عامة الشعب، بعد أن كان لأبناء الطبقة القادرة على ذلك ماديا، حتى لو لم يكونوا بذات القدرة الاستيعابية لأبناء آخرين من الطبقة الفقيرة. وطردنا الاستعمار بكل عزة وفخار، وأممنا أراضى الأغنياء الذين أطلقنا عليهم إقطاعيين لأنهم كانوا يحوزون مساحات من الأرض، تمتد من صعيد مصر إلى حدود مدينة القاهرة ثم شرقا وغربا، من بين جبليها الكبيرين. توقفت المظاهرات قسرًا لا عن قناعة أو تقدم. كان التعليم المصرى مشهودا له فى الشرق وفى الغرب. لم نكن نعرف ما يسمى بدروس خاصة، ومن يمارسها من أبناء الأغنياء كانوا يمارسونها سرا لا جَهْرًا، لأن متعاطيها كانوا يوصفون بالغباء، ولم يكن معلموهم من معلمى فصولهم الدراسية، لأنهم كانوا يرفضون بشمم وكرامة، ونسمعهم يقولون ويفعلون: ماذا يمكن تقديمه خارج الفصل الدراسى من مزيد؟ بل كانوا يستعيرون بعض حصص التربية الرياضية حتى ينتهوا من المناهج الدراسية، فضلا عما سمى بحصص إضافية قبل موعد الدراسة بساعة مبكرا، حتى كنا نخرج قبيل إشراقة الشمس لحضور الحصص الإضافية المجانية، لم نكن نسمع كثيرا عن التعليم فى الخارج فى عصر الناصرية. وبدأنا العصر الساداتى، وما عرف بالانفتاح والتعليم فى الخارج، واستيراد كل شىء، حتى الطعام والملابس والسيارات الفارهة وتصدع التعليم بالداخل، لا سيما التعليم العام الذى عجز عن السباحة على شواطئ التعليم الخاص والخاص جدا، داخل مصر وخارجها، ولايزال يمتد حتى لجأ أبناء الحظوة إلى التعلم خارج مصر لضمان تعليم يحقق لهم ما يحلمون به، ولو لم يحصلوا على درجات تؤهلهم لتحقيق غايتهم بالداخل، كما عرفنا الجامعات الموازية (فئوية الطلاب)، ليست لكل أبناء الوطن، بل لفئة خاصة، وبعد أن كانت معنية بالدراسات الدينية دون سواها، إذا بها تنافس الجامعات، وتنتشر فى كل ربوع مصر، ويليها تعليم ما قبل الجامعى من رياض الطفل حتى نهاية المرحلة الجامعية، دون أن يلتقوا بمصائر لهم من أبناء وطنهم وإمكانات تمويل من كل المواطنين، بل خصّها الدستور بميزة لم ينلها سائر المواطنين، فامتدت كلياتها لتشمل كل أنحاء مصر، بل إلى خارج مصر، مع إلزام الدولة بتوفير كل موازناتها. حدث أن حظيْت شخصيا ببعثة دراسية لمدة عام فى الولايات المتحدة، لا بتمويل مصرى، ولكن بمنحة من الكلية فى أمريكا، وذلك بعد دراستى اللاهوتية وحصولى على درجة البكالوريوس، وكنت فى السنة قبل الأخيرة لدراسة القانون، فى جامعة القاهرة. وشأنى كغيرى؛ كانت أمريكا فى العصر الناصرى هى حلم شبابنا فى عهد الثورة، فقد انحصرت الدراسات خارج مصر فى أعداد قليلة وللضرورة الوطنية.
وأذكر أن المبلغ المسموح بتغييره إلى دولارات كان خمسة جنيهات مصرية، وهى تعادل إحدى عشر دولارا شاملة الرسوم والتمغة، إذ كان سعر الدولار الأمريكى تسعة وثلاثين قرشا، وقيل- نقلا عمن كانوا قبلنا- إنه كان يعادل ريالا مصريا (٢٠ قرشًا). «وا حسرتاه على جنيهنا الجريح والطريح الذى يرفضه المتسولون، ويكاد يعادل ثمن رغيف خبز جاف، بعد أن أصابه الوهن والهزال، وأصبح لا يكفى لإطعام طفل، فطم حديثا (٧٥ قرشا) لغير حاملى بطاقة التموين».
أمَا وقد طالت المقدمة، فإنى أبدأ بالموضوع، لعلنا نسهم- ولو يسيرا- فى حلحلة الأزمة.
لدينا معطيات، أهمها أراضٍ واسعة، بعد أن تم تحرير القدر الكبير من المساحات المتعدَّى عليها، من مساحات شاسعة بدأت تعود إلى الدولة.
والأمر الثانى: لدينا مواقع متميزة شتاء وصيفا، قلما وجدت فى بلاد أخرى قريبة أو بعيدة.
وثالثا: لدينا عقول يشار إليها بالبنان، والقدرة على الإسهام فى إقامة الحصان من كبوته.
رابعا: لدينا جيش متمكن ليس فقط فى المعارك والحروب التى لم نسعَ إليها، وإنما فرضت علينا وعلى جيشنا الباسل.
خامسا: لدينا قدرات بشرية برعت فى أركان المعمورة فى كل اتجاه، من دول الشرق والغرب. ونتناول كل عنصر بإيجاز، مساهمةً فى الخروج من الأزمة التى طالت، وحولها الغيوم قد زادت، والهموم توالت، وساعات النهار مالت، حتى تخيلنا أن النفق لا نهاية له، لا سيما الأنوار لم تعد بقوة إضاءتها، وإن لم تكن قد انطفأت بعد. وهذا ما سنتناوله بشىء من التفصيل فى أعداد قادمة.