الدستور
جلال حمام
الجهاز الإدارى 7 ملايين.. العدد فى الليمون
كثرة كغثاء السيل، لا تُسمن ولا تُغنى من جوع.. أو كالزبد، يذهب جفاء، فلا يتبقى منه ما ينفع الناس.. هكذا هو الجهاز الإدارى فى الدولة المصرية، الذى يقترب الآن من سبعة ملايين عامل فيه، بعد أن أصدر الخديو سعيد باشا، عام ١٨٨٢، أول تنظيم له، قابل فيه الرتبة «الدرجة الوظيفية» المدنية، بما يناظرها من الرتبة العسكرية فى الجيش المصرى، لأنه كان يرى، إذا كان الفرد فى جيش بلاده، يدافع عن الأرض ويحمى العرض ويذود عن الحدود، فإن الموظف يقوم على إدارة شئون البلاد وتنظيم حياة العباد، بما يُعلى من شأنهم ويسهم فى تنمية بلادهم، حتى صارت مصر، فى ذلك العهد، قطعة من أوروبا، بل نافست أكثر مدنها جمالًا وحضارة.. وكان الخلق ينظرون إلى «المستوظف» نظرة يملؤها الاحترام والتقدير، باعتباره رسول حكومة المحروسة، جاء للناس بما ينفعهم، بل زادت المهابة والإهابة إلى حد خلع الألقاب على ذلك الرجل، مندوب الحاكم وصاحب الصلاحية، قبل أن يُصبح مرتشيًا فاسدًا، فكان اسمه يأتى مقرونًا بـ«أفندى»، لأنه من العيب أن يُنادى عليه البعض باسمه مجردًا.. فماذا حدث؟.
الكثرة العددية فى السكان ليست لعنة فى كل دول العالم، إلا فى بلدنا.. فكل الدول تدرك سر قوتها البشرية، بل تعتبرها الثروة الحقيقية، وقوتها الفاعلة فى البناء والنهوض بأركانها، تسبق فى ذلك كل أنواع الثروات، التى تخرج من الأرض أو تهبط من السماء.. فهذه الثروة البشرية هى مناط العقل المُبدع، وموئل القدرات الخلاقة التى تخترع وتأتى بالأعاجيب، وبدونها يكون المال مجرد أرصدة صماء، لا حياة فيها ولا نماء.. ولننظر إلى دول الخليج، وقت أن شهدت زمن الطفرة البترولية، أعقاب حرب أكتوبر المجيدة، وفتحت السماء أبوابها بثروات على هذه المنطقة، فجاءها المال، ولم تجد من أبنائها من يستغله فى بناء دول المنطقة الست، فاستعانت بالبشر من كل أصقاع الدنيا، وكان منهم المصريون، يبنون لها حضارتها ويقيمون لها مدنيتها، قبل أن تنتبه إلى ضرورة العنصر البشرى الوطنى، فى بناء أى حضارة، وقيام أى نهضة، فعجّلت بإرسال أبنائها فى بعثات تعليمية إلى كل جامعات العالم، ومنها القاهرة، ينهلون من كل علم مفيد، حتى عادوا إليها وأصبحوا عمود خيمتها وقاطرة تنميتها.. وعندما عادوا، كانت بلدانهم قد أعدت لهم نظامًا إداريًا، وهياكل وظيفية، تنتظمهم، على أساس من الإدارة بالأهداف، ومنهج الثواب والعقاب فى كل مسلك، حتى بلغ بعضها حدًا وضعت فيه مقياسًا لسعادة مواطنيها، أساسه مستوى ما يُقدم لهم من خدمات، الإنجاز وسيلتها والتميز شعارها، حتى لو استدعى الأمر إقالة وزراء لم يحققوا المطلوب منهم، فى الوقت المحدد لهم. حتى الصين، التى يُضرب بها المثل فى كثرة عدد شعبها، بما يتجاوز المليار.. حولت هذه الكثرة البشرية إلى طاقات إنتاجية غير مسبوقة، اخترقت منتجاتها حدود مكانها، وبلغت دولًا متقدمة فى أوروبا وأمريكا، تلك التى باتت تئن من الغزو المُقتحم للمنتجات الصينية لأسواقها، تفرض نفسها بجودة وتميز، وبأسعار منافسة، لا يمكن مواجهتها أو التصدى لمنعها.. تحقق كل ذلك، لأن حكومة بكين آمنت بأن الخير فى البشر، إذا ما أحسنت تأهيلهم واستخدامهم فى الأهداف التى ترجو الدولة تحقيقها.. بتأهيل يبدأ منذ نعومة الأظفار، ويستمر حتى المراحل العليا فى التعليم.. ومشكلتنا هى فشلنا فى إدارة مواردنا البشرية، بدءًا من التعليم الذى لا يملك خطة تراعى احتياجات الدولة من قوتها البشرية، وانتهاءً بمناهج لا تُخرج إنسانًا قادرًا على العطاء المتميز، بتأهيل يمنحه القدرة على المنافسة فى سوق العمل.. لذلك، تبدو لى حوادث القطارات الأخيرة، تحصيل حاصل لما درجت عليه الإدارة فى هذا المرفق الحيوى، الذى يتعامل مع مليونى مواطن يوميا.. إدارة تتعلل بقصور إمكانياتها، مع أن ما يحدث ليس له علاقة، من قريب أو بعيد، بالإمكانيات.. فما معنى أن يقف قطار فى نهر قضبان حديدية تسلكها قطارات غيره، دون سبب واضح، حتى يأتى أحدها فيصدمه من الخلف، موقعًا ضحايا بين قتيل ومُصاب، بعضهم سيخرج من إصابته بعاهة مستديمة.. وما علاقة الإمكانيات بقطار آخر، يفاجأ سائقه بتوقف عمل «الفرامل» وهو يقترب من إحدى محطاته، فيتجاوزها، حتى يتدارك مشكلته فى المحطة التالية.. يُذكرنى ذلك بالقطار الذى خرج عن قضبانه عند كفر الدوار، قبل سنوات، واجتاح الشوارع وحصد البشر، كثور هائج، لم يجد من يروض قوته الغاشمة، والسبب «جزرة» الفرامل!. علة كوارثنا تكمن فى إدارة لم تفرض من الرقابة، ما يمكنها من متابعة أداء العاملين فى ورش السكك الحديدية المنتشرة بامتداد جمهورية مصر العربية، ولم تضع من القواعد الصارمة، ما يدفع كل «ملاحظ» أو مشرف، إلى مراجعة صلاحية وحدات الديزل وعربات القطار، قبل خروجها فى أى رحلة، تمامًا مثلما يحدث فى المطارات، مع كل طائرة تهبط أو تستعد للإقلاع، لأن الأمر يتعلق بحياة إنسان، ليست من الهوان، إلى الدرجة التى نفرط فيها، بإهمالنا فى عملنا، أو التقصير فيما ينبغى علينا القيام به، كواجب ضرورى من واجبات وظيفتنا التى نتقاضى عليها أجرًا، نهاية كل شهر.. والأمثلة تستعصى على الحصر، فى كل مرفق من مرافقنا، وعلى رأسها المحليات.
لم تعد واجبات الإدارة تنحصر فى ضرورة استمرار الحركة ودوران العجلة، بل فى انضباط هذه الحركة، وسلامة دوران العجلة، من دافع المسئولية، التى يجب أن تصل إلى حد «الجنائية» فى بعض الأحيان.. فليس المنصب من أعمال الوجاهة التى تتنعم الدولة بخلعها على هذا أو ذاك، بل هو تكليف بالعمل، ومسئولية عن أساليبه، ومحاسبة على نتائجه، دون تأخير أو تسويف، وإلا ظللنا نراوح مكاننا، ونمصمص الشفاه عند حدوث كل كارثة، نسمع بعدها وعودًا بالتطوير والتغيير، وكل الكلام الذى أصبح ممجوجًا وغير مقبول.. ألم يقل رئيس الدولة إن كل تقاعس عن اتخاذ قرار من الضرورة البت به، يعتبر جريمة؟.. فأين ذلك من أصحاب الحل والعقد، فيما نواجهه فى كل يوم من كوارث ونكبات؟!.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف