الدستور
أحمد بهاء الدين شعبان
أنصتوا لصافرة القطار
أشعر أن كل الكلمات الملتاعة، والألفاظ المفجوعة، التى سكبتها الأقلام على الصفائح البيضاء، وطيرتها الأفواه فى الفضاء الواسع، لا قيمة لها ولا معنى، ولا مردود ولا نتيجة. لأنها كلمات مكررة، ومرثيات معادة، نلوكها عقب كل كارثة، ونتقيؤها بعد كل مأساة، ثم تمضى الأيام مملة ورتيبة، حتى نصحو على فاجعة جديدة، تتم بذات الوصف، وبنفس الشكل، دون أدنى تغيير.
بل إن التبريرات التى يقدمها المسئولون هى هى، لا إبداع ولا تبديل يقنعنا بأن وراء الأمر مبررا مستحدثا، أو أن ما وقع بالأمس يختلف فى المسببات عما وقع من خمسين سنة. نفس الكلام «الساكت»، كما يقولون، عن معاقبة المخطئ، ونفس الوعود المبتذلة كما تعودنا عن وضع خطط لإصلاح الأحوال، ومنع تكرار المصيبة، ونفس الوجوه الفاشلة، والوعود الخائبة، المُصِرّة على الإخفاق، وحينما ينتقد إنسان ما يراه من إفلاس وفشل، ترتفع الأصوات لكى تندد به، وتتهمه بالترويج للمؤامرة التى تستهدف هدم الوطن!.
وقد يقول قائل إن الإشكال فى نقص الإمكانات المادية، وهذا غير صحيح، فهيئة السكك الحديدية رفعت أسعار تذاكرها لمستويات غير مسبوقة، ومع هذا لم تتحسن الخدمة، ولا تزال المعاناة قائمة، وأوضاع القطارات، وبالذات فى الدرجات الشعبية، بائسة، ولا تصلح للاستخدام الآدمى، ولا يمكن مقارنتها بأوضاع مثيلتها فى دول أفقر، وأقل خبرة وإمكانات، وأحدث منا فى هذا المضمار!. وفضلًا عن ذلك، فقد أغرق إهمال الدولة، وسوء الإدارة، والعجز عن التطوير مرفقا بالغ الحيوية، لا يتوقف الناس عن الإقبال على استخدامه ليل نهار، فى دوامة الديون، والعجز، ورغم أن موازنته بلغت المليارات، فديونه فاقت مئات المليارات!.
ولن يحل المشكلة إقالة رئيس الهيئة كما حدث، أو الوزير كما يطالب البعض، فالمشكلة أعمق وأعقد. فهذه الحالة البائسة لمرفق أساسى، ومن أقدم المرافق فى البلاد والعالم، تتكرر فى كل مرافق الدولة الأخرى، بمستويات مختلفة.
خذ مثلًا مرافق السكن، والتعليم، والصحة، والزراعة والصناعة: حدثنى عن الملايين الذين لا يملكون الحق فى الحياة الآدمية بالعيش فى مسكن لائق، وعن فوضى وتردى أحوال أبنائنا الطلبة المنقسمين بعنف، بين من يملك شراء تعليم أجنبى بمئات الآلاف من الجنيهات، وبين من لا يجد كرسيًا يجلس عليه فى الفصول المكتظة بالعشرات من البائسين. وعن ضحايا الأمراض الفتّاكة الذين لا يجدون سريرًا للعلاج ويذوى شبابهم أمام أعيننا ونحن نتفرج، وعن ملايين الفلاحين الذين يجأرون بالصراخ من بؤس حالهم فى زمن «التعويم»، ولا مُجيب، وعن سبعة آلاف مصنع مغلق، بما حل بأصحابها والعاملين فيها من مآسٍ.. إلخ.
إذن المشكلة ليست فى هيئة السكك الحديدية وحدها. المشكلة أعم وأشمل، وهى تتعلق بأولويات الدولة وجدول اهتماماتها: هل نستثمر فى الحجر.. أم نستثمر فى البشر؟!. هل نترك القديم بكل مشاكله يموت، وينشق غيظا، وَيَخرُب ويُدمّر تدميرا ذاتيا، كما يحدث الآن، ونبنى مدنا جديدة لن يدخلها إلا المُبَشَّرُون، ومدارس جديدة لن يقرُب منها إلا القادرون، و«كمباوندات» جديدة لا يعيش فيها إلا المحظوظون، وبعدها فليذهب إلى الجحيم أكثر من تسعين بالمائة من المصريين!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف