علاء خالد
الإسكندرية: ليلة رأس السنة 2000
فكرت كثيرا في أن أكتب عن ذكرى تلك الليلة. كل أحداثها لا تزال حاضرة في رأسي كأنها حدثت بالأمس القريب، ولا يفصلني عنها حوالي 17 سنة وثمانية أشهر ونصف تقريبا. دائما ما فكرت أن وقائع تلك الليلة العادية، بل غاية العادية؛ يمكن أن تكون مشروع فيلم مختلف، فهيكل السيناريو المشوق حاضر بها، ولكن بدون تشويق بوليسي، أو تشويق دراما "الذروة"، بل بتشويق تحولات مصائر من اشتركوا في هذه الذكرى، والتى ظلت تتشكل، المصائر، خلال سنوات طويلة وتنسج ذروتها فى زمن طبيعي بطيء وليس في زمن سينمائي متسارع.
ما منح هذه الذكرى تألقها هو حدوثها ليلة رأس السنة عام 2000، نهاية ألفية وبداية ألفية جديدة. عدة أجيال عاصرت ميلاد رقم كامل بدون زيادات، أو ثرثرة رقمية، ولن تعاصره أجيال أخرى، إلا بعد ألف عام عندما تتحول الأعداد إلى أصفار. وبينها ستسقط أجيال فى هوة ثرثرات أرقام عادية، غير مكتملة، لسنوات عادية بدون أحداث، ولا تنبىء بحدوث شىء، ولا تمنح غموضا وتشويقا أو حتى انتظارا لأمل ما عند ذكرها.
دائما البدايات والنهايات بهما طاقة غريبة على هدم وتحلل أشياء وإعادة بناء أشياء جديدة. هناك طاقة كونية وتاريخية كامنة فيهما. هذا الرقم الكامل، رمز التقاء نهاية ببداية، منح تلك الذكرى خصوصيتها، كأن هذه الذكرى أيضا لحظة فارقة فى حياة أصحابها سواء شعروا بهذا أو لم يشعروا. ولكن فى ذلك اليوم البعيد كانت هناك مصائر تُرسم، عكس ما توقع أصحابها، وتنفصل خمس زيجات سعيدة من الأزواج الشباب، الذين احتفلوا بهذا اليوم؛ تباعا على مدار سنوات بدءًا من هذا التاريخ الكامل، وينفرط عقد من الأحلام.
ما عطلني عن الكتابة وجعلها مشروعا مؤجلا دائما، بالرغم من إغراء الذكرى، أن كل أصحابها موجودون. ليس فى الذكرى ما يشين بالطبع، فالانفصال شىء وارد فى أى مشروع زواج، وربما كذلك لم يتبق منها ما يؤلم الآن. ولكن كنت أشعر بأن هناك جرحا نائما تحت سعادة هذه اليوم، قطعة زجاج غرست تحت جلد كل زوجين، من زجاج الإسكندرية المهشم فى ليلة رأس السنة، ولم تخرج حتى الآن، تظل تؤلم عند أى احتكاك أو تذكير بها.
قابلت أصحاب هذه الذكرى كثيرا بعدها، لم نفتح سيرة هذا اليوم أبدا. تواطأنا جميعا ألا على نتكلم عنه، ونحتفظ بغموضه. فربما ما حدث معروف للجميع ولا يحتاج للتذكير أو تداوله وإعادة مشاهده، فظاهر اليوم لا غبارعليه، شديد السعادة والنزق اللطيف. ربما كان هناك حوار صامت يجريه كل من أصحاب هذه الذكرى مع نفسه بدون مشاركة. لم نشأ أن نربط بين هذا اليوم وتوالي كسر الرابطة الزوجية بين خمس زيجات ممن شاركوا في هذا الاحتفال القيامي. ليس صدفة، هناك ما بعد الصدفة، هناك قدر كانت تحاك وقائعه فى هذا اليوم وظل فاعلا ومحافظا على نفسه بدقة.
لم تكن قوة اليوم والحدث والتاريخ الكامل هي المفجرة لهذه الانفصالات المتتالية ولكسر الروابط الزوجية، ولكنها كانت البداية، فلم يكن هناك سر تم إعلانه أمام هذا اليوم الاعترافي، كما يحدث فى أفلام المخرج داوود عبد السيد وخاصة فيلم "أرض الأحلام". لم يحدث هذا.. كذلك لم يكن هناك مأزق جماعي عاشه معنا أصحاب الذكرى وأدخلهم فى أتون عالى الحرارة جعلت الروابط الزوجية بينهم تتداعى وتنصهر.
كل هذا لم يحدث. ربما ما حدث أن السر المفاجأة، بمعناه الحياتي، أخذ سنوات على نار هادئة لكى يظهر إلى النور، لأنه جزء غير منفصل عن الحياة اليومية وجريانها الهادئ أو الملول أو المتدفق أو العشوائي.
التقينا ليلة رأس السنة عام 2000، فى الإسكندرية، مجموعة من الشباب الأصدقاء من القاهرة والإسكندرية. كلها صداقات جديدة، ومنها ما يمتد قبلها لبداية التسعينيات، ومنها ما هو حديث، تجمعت هذه الثنائيات "الكَوبلز" ليعبروا عن الوجه المشرق والناجح والهامشي للحياة، فكل من هذه "الكوبلز"، كان ينحت له طريقا مختلفا في الفن والأدب والسينما والصحافة، فتشعر بأنك داخل صحبة ممثلة لعصر قادم لم تظهر بشائره بعد، لاتجاه جديد في الحياة.
تقابلنا، شركاء هذا اليوم، فى البداية فى أحد المقاهي فى منطقة كامب شيزار على البحر، وظللنا نتنقل من مقهى لآخر، يطاردنا صوت تكسر الزجاج فى شوارع الإسكندرية. فقد كانت عادة لا تزال حية فى هذا الزمن، وأيضا فى هذه المنطقة الغنية بذكرى اليونانيين القدامى، لم تمح بعد من ذاكرة الحي. سرنا تحت البنايات لنتلافى الزجاجات الساقطة من البلكونات وشظاياها، وكذلك الأمطار المنهمرة، حتى وصلنا إلى محطة الرمل، حيث مطعم وكافيتيريا وبار "الكاب دور"، بعد التوقف فى عدة نقاط في الوسط.
صوت تكسُّر الزجاج أثناء سيرنا، تفاعل فيما بعد في ذاكرتي، وجاء بمشهد ربما مختلف فى مضمونه، ولكنه قريب فى صوتياته، وهى "ليلة الكريستال" كما يسمونها فى ألمانيا، التي توافق 9-10 نوفمبر، 1938 عندما قام النازيون بالهجوم على معابد ومحال اليهود وتكسير واجهاتها الزجاجية، والاستيلاء على ما بداخلها. كان الزجاج فى كل مكان، وصوته أيضا الذي غطى على أصوات الشوارع والبيوت التي يسكنها اليهود.
كان يصاحبنا صوت تكسر الزجاج، سواء لحظة قذفها، أو لحظة السير على شظاياه. تسمع أصوات تكسُّر لوح زجاج كوني، يرمي بشظاياه فى كل مكان كوداع للألفية واسقبال الألفية الجديدة. الجميع مشى على الزجاج في هذا اليوم. علاقات زوجية سعيدة مشت على الزجاج وانجرحت وظهرت دماؤها بعدها بسنوات. طبعا كان من الممكن أن تمر الذكرى بدون تثبيت لها، كأى حدث مفارق طريف، ولكن توالى الانفصال بين شركاء هذه الليلة جعلها، هذه الليلة، سنة بعد أخرى، وانفصالا بعد آخر؛ تأخذ هيئتها الكاملة في ذاكرتي وذاكرة أصدقائى وأيضا ذاكرة الزجاج.
هناك شبكة من الأسئلة الصامتة نُسجت فى ذاكرة الجميع، بعد أن تفرقوا، سافر من سافر، وبقى من بقى. تلك المصائر المزدوجة انقسمت وأصبحت فردية، وتضاعفت وتفرعت خيوط الشبكة التى جمعتنا. ربما الجميع سينسى أمر انفصاله عن آخره، الذى سيصبح حدثا عاديا بمرور الأيام والسنوات، ولكن سيحمل الجميع صوت تكسر الزجاج الذى ظل حيا يذكرنا جميعا بحدة شوارع الإسكندرية وبقسوتها، مثل السير على الجمر لتثبت عمليا صدق حياتك من كذبها. تذكرنا هذه الشوارع وأصوات تهشم هذا اللوح الكوني، بقطع الزجاج المنثور وهي مفروشة على الأرصفة، بينما الأمطار تجرفها وتضيئها لمرة أخيرة، قبل أن تدخل فى ثنايا الذاكرة.