التحرير
نبيل عبد الفتاح
محاولة في تشريح فشل جماعي مستمر!
حوادث تصادم القطارات، والأعطال في خطوط السكك الحديدية، والازدحام على نوافذ بيع تذاكر السفر، وشرائها من السوق السوداء، وتولي غير المتخصصين في النقل لإدارة شئونها، كلها مظاهر جزئية لاختلالات سياسية وتكنقراطية وإدارية واجتماعية في حياتنا، ومستمرة بلا انقطاع.

الحادثة الأخيرة لتصادم قطار قادم من القاهرة وآخر من بورسعيد ليست الأولى، ولا الأخيرة، بل بعدها وقعت حوادث أخرى، لأن الخلل قائم في العقل الحاكم لشئون حياتنا في كل شيء، والناتج عن شيوع ثقافة التبرير والتواكل وغياب ثقافة العمل المسئول في حياة كل شخص وجماعة مهنية ووظيفية ليست مؤهلة في تكوينها ولا خبراتها لأداء العمل الذي نيط بها، وخطاب الوطنية الزائف حول أننا ثاني بلد في العالم دخلت إليه السكك الحديدية أيام الاستعمار البريطاني، هو خطاب للتباكي على الماضي، وليس لمواجهة الحاضر البائس بكل اعتلالاته وأمراضه السياسية والاجتماعية.
نخبة سياسية حاكمة ليست لديها رؤية متكاملة ترتكز على أساس من الدراسات العلمية في مجال النقل البري، والبحري، والجوي والسكك الحديدية، تحدد المشكلات التي تواجه كل قطاع من القطاعات وجذورها وكيفية مواجهتها، وفق آخر البحوث والتجارب والاكتشافات العلمية، وما الجوانب الاجتماعية والثقافية الأخرى لهذه المشكلات؟ وما أفضل الحلول المناسبة لنا على المدى البعيد؟ وما التكلفة الاقتصادية والاجتماعية لهذه الحلول؟ وما الأولويات المتاحة أمامنا؟ وما البدائل الأخرى؟

لا أحد يطرح على نفسه هذه الأسئلة البسيطة، من المسئولين عن هذا البلد، ولا حتى الخبراء الفنيين أو البيروقراطيين، الذين لا تجد لديهم إحصائيات دقيقة حول الموضوع الذي يناقشونه؟ ولا حجم المشكلة في مصر، كأعطال السكك الحديدية، أو الحوادث، أو حجم الضحايا، ولا تكلفة ما تدفعه الهيئة المختصة من تعويضات لأهالي الضحايا؟ ولا حجم المشكلة عالميا وكيف تم مواجهتها، في الهند وبولندا، ودول أخرى؟ هل الحل في التطوير التقني لنظام التنبيه والإشارات والرقابة؟ وهل الحلول التقنية ممكنة في ظل ضعف مستويات تكوين ومعرفة موظفي الهيئة؟ هل يتناسب مع سلوكهم الوظيفي، وميلهم للتكاسل واللا مبالاة؟ هل يمكن للتقنيات المتطورة في القاطرات في ظل الرقمنة، تتماشى مع بعض قائدي قطارات السكك الحديدية وميلهم للتواكل والقضاء والقدر أو سلوك بعضهم غير المسئول، وتناول النرجيلة أثناء قيادتهم للقاطرات ورحلاتها بطول البلاد وعرضها كما حدث مؤخرًا وتم عرض صورة في وسائل الإعلام الاجتماعي على فيسبوك! هل يمكن لمزلقانات السكك الحديدية أن تعمل بكفاءة بالطرق التقليدية التقنية البسيطة التي تجاوزتها تكنولوجيا الاتصالات في مجال السكك الحديدية، وسلوك العابرين اللا مبالية بالأخطار؟! من عابرين على أرجلهم يهرعون للعبور بينما القطار على بعد مئة أو مئتي متر وربما أقل! أم هؤلاء العابرون بحيوانات الحقول، أو عربات تقطرها الحمير، أو الأحصنة، أو سيارات نقل عامة أو سيارات خاصة، تريد العبور مسرعة بينما يفترض أن أجراس التنبيه تعلن عن قدوم قطار ما عابر بسرعة؟!

هل يمكن أن يكون الاستخدام التقني المتطور في مجال الرقمنة حلا، بينما يقوم عمال المزلقانات بالتركيز على إعداد المشروبات داخل الكبائن؟! هل إنشاء الزوايا والمساجد بجانب مزلقانات السكك الحديدية، أحد أسباب الأخطاء التي يقع فيها هؤلاء العاملون، وتؤدي إلى وقوع عشرات الضحايا من الموتى والجرحى، لأن بعضهم يترك مكان العمل للصلاة؟ هل هذا سلوك ديني صحيح، ويتفق مع القيم والمبادئ الإسلامية الفضلى بفرض حدوثه كما ذهب بعض كبار المسئولين عن السكك الحديدية ووزارة النقل؟

إن كوارث السكك الحديدية، وحوادث المرور، وضحاياه تتزايد عاما بعد الآخر، وترتفع صرخات الألم على الضحايا الموتى والجرحى، ومعها تصريحات عن حل لمشكلات المرور والسكك الحديدية، وعن خطط لتحديثها وتطويرها، وعن أن حجم المشكلات ضخم، وتحتاج إلى أكثر من مئة مليار جنيه، وأن المتاح من الموارد محدود! وعشرات من خطب وبيانات تبرير الكوارث، وأنها تعبير عن تراكم الأزمات في عهود سابقة، وأنهم يتحملون مسئولية قيادات سابقة أخطأت ولم تسع إلى حل هذه المشكلات! تهدأ النفوس قليلا، وتظهر مشكلة أخرى، وتتناسى النخبة السياسية الحاكمة مشكلات السكك الحديدية والقطارات، وتهالكها، والقضبان الحديدية ومدى كفاءتها، ونظام التنبيه والرقابة والتوجيه الذي لا يزال بدائيا، ولا يعود الحديث مجددًا إلا بعد كل حادثة كارثية أو مجموعة حوادث تخلف ضحايا جددا ودماء وأشلاء وتحطم عربات.. إلخ! هذه الذهنية البيروقراطية في "السياسة" أو "اللا سياسة"، وفي الإدارة وهندسة السكك الحديدية، هيالتي تنتج الأزمات ولا تواجهها في منابتها ومظاهرها؟ هي ليست مشكلة سكك حديدية، وفشل في تخطيط وإدارة المرور على الطرق السريعة أو في عواصم المدن.. إلخ، إنها في إدارة الأزمات السياسية الخارجية، وإدارة شئون البلاد، وفي مواجهة الجرائم والعنف والإرهاب، وفي الفشل إزاء انتشار الفساد وشبكاته في أجهزة الدولة، والعجز عن تطبيق القانون على المخاطبين بأحكامه إزاء كبار المسئولين ورجال الأعمال، وموظفي الحكومة، وفي الحياة اليومية.. من هنا أعطى غالب الجمهور ظهره للقانون، ويقوم بانتهاكه جهارًا نهارًا، لأنه فقد وظيفة الردع العام والخاص، ولم يتحول إلى جزء من الثقافة اليومية للمواطنين، في حياتهم وسلوكهم!

إنها ثقافة الإهمال والفوضى وعدم الكفاءة في وسط النخب والموظفين والعمال، خذ على سبيل المثال المسعفين -الممرضين- اللذين قاما بأخذ صورة سيلفي لهما في موقع الحادث ووراءهما إحدى عربات القطارين المحطمين! ما دلالة هذه الصورة؟

إنها تعبير عن حالة من اللا مبالاة والتبلد أيًّا كانت تبريرات بعضهما للصورة والمشهد وسلوك الممرضين غير العابئ بالكارثة وحجم الدماء والضحايا من الموتى والجرحى من جراء هذا الخطأ البشري الفادح!
ثمة اختلالات في ثقافتنا وأنماط حياتنا المعاشة في "السياسة" والاجتماع والاقتصاد في قيمنا، في تعليمنا الرديء، في أكاذيبنا وتبريراتنا، في تواكلنا، في ممارساتنا الدينية المزدوجة، في تديننا الشكلي وازدواجيته وتطرفه الكاذب.

نحن لا نزال نعيش في الماضي، وتحكمنا العقلية الماضوية، وعلى النقل لا العقل، وعلى معارف وقشور تجاوزها تاريخ المعرفة والعلم. لا نزال نتشدق بالمعرفة القشرية، في ادعاء وجهالة من بعضهم، ونكذب على أنفسنا ونعتقد أننا مركز الكون، في حين أننا من أكثر دول العالم تخلفًا؟ نعيش في كهوف الماضي، وموروثاته بينما نعيش في ظل عوالم تنهار، ومعها أنظمة ورؤى وأفكار تزوى، ومؤسسات سياسية عقيمة لم تعد قادرة على استيعاب طبيعة عمليات التحول الكبرى والسريعة والمكثفة للتحول مما بعد الثورة الصناعية الثالثة إلى ما بعدها، بل ومن الإنساني إلى الرقمي، وأثره على الكينونة الإنسانية ذاتها، في ظل اكتشافات نوعية تتالى وترهص بثورة جينية، وتجارب الاستنساخ الحيواني والبشري التي تتم في علانية أو خلسة وسرًّا.

الإنسانية ذاتها، في ظل اكتشافات نوعية تتالى وترهص بثورة جينية، وتجارب الاستنساخ الحيواني والبشري التي تتم في علانية أو خلسة وسرًّا. إرهاصات ومخاضات زلزالية تسم المرحلة المابعدية، ما بعد بعد الحداثة وما بعد العولمة، وربما ما بعد الإنسان الطبيعي في ظل هذه التحولات الهادرة والكينونية، نتراجع إلى الوراء وتتفاقم مشكلاتنا وفشلنا الجماعي، ولا نريد أن نصارح أنفسنا بهذا الفشل الكبير وأسبابه داخل كل واحد منا، وفي نسيج النخب السياسية المسيطرة وفي المعارضة. لا بد أن نصارح أنفسنا بعجزنا وأسبابه، لأن المهم هو تشخيص مشكلاتنا وأزماتنا، حتى نستطيع البحث عن حلولٍ ما، إذا استطعنا!

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف