ها أنا في الصندوق مرة أخرى. أمر ببصري لأعرف كم بلغ عددنا الآن. هو الشتاء لكن المطر والهواء البارد في الخارج لا ينفذ من هذا الحديد اللعين. الأنفاس والسجائر وحرارة المحرك صنعت تدفئة. لكن الأمر في أغسطس كان مختلفا تماما.
اقترب شاب مني وهو يتفرس ملامح وجهي. سألني بخجل إن كنت أنا من ظهر على الشاشة حاكيًا ما جرى لنا في سيارة الترحيلات؟
***
هل كانت السيارة أضيق يومها أم أن عددنا الآن أقل بكثير مما كنا عليه؟ يسألني الشاب ثانية عن اليوم. أتذكر مشهد خروجي من السجن بعد المذبحة. كنا قد اتفقنا على أن نصمت حتى نخرج كي لا تزيد معاناتنا.
مر يوم واحد فقط ولم أستطع المقاومة. نصحني الأهل والأقارب بأن أبتعد وأحمد الله على النجاة. لكن صوت الصراخ لم يتوقف.
انتشرت شهادتي وتوالت اتصالات الصحفيين والكاميرات تطلب مزيدا من التفاصيل
***
يعتذر جاري عن تلاحق أسئلته عن تفاصيل ما جرى يومها حين يرى ملامح وجهي وأنا أتذكر. ابتسمت وقلت له إن يوما كهذا لا قبل للتناسي بالانتصار عليه.
نحن الآن نصف العدد الذي كنا عليه حين تحركت سيارتنا يومها. أنظر من الشباك إلى الطريق. يحاول هو استكشاف وجهتنا، بينما عدت أنا إلى مشهد الضابط وهو يجلس يومها على كرسي في الظل، ويمسك بزجاجة مياه "مشبرة"، وصوت الأمين يصل إلىَّ وهو يبلغه بتوسلاتنا فيصرفه بيده دون مبالاة.
***
فتحوا الباب.. وجدنا الأجساد تندفع خارجة قبل أن تبادرها البيادات لتعيدها إلى مكانها. نظرنا إليهم متسائلين: كيف سندخل؟ لكن الأرجل والأيادي أجبرتنا على الانصياع والبحث عن منفذ وسط من سبقونا. باب الزنزانة يُفتح للداخل. لذا فعلى هذه الأجساد أن تتضاءل أكثر حين يطلب الحرس إفساح مكان لركاب جدد. لا يا بني. لم يعبأ أحد بشهادتي. ذهبت مرة وحيدة إلى المحكمة لأقول ما رأيت فقال لي المحامي إن القضية تأجلت. لم يطلبوني بعدها. شهادتي غير مهمة في نظرهم على ما يبدو. غادرت محيط المحكمة وأنا أفكر وأسأل نفسي: هل هناك عقاب آخر سوى أن يمروا بنفس ما رأيناه؟
باب الزنزانة يُفتح للداخل. لذا فعلى هذه الأجساد أن تتضاءل أكثر حين يطلب الحرس إفساح مكان لركاب جدد. لا يا بني. لم يعبأ أحد بشهادتي. ذهبت مرة وحيدة إلى المحكمة لأقول ما رأيت فقال لي المحامي إن القضية تأجلت. لم يطلبوني بعدها. شهادتي غير مهمة في نظرهم على ما يبدو. غادرت محيط المحكمة وأنا أفكر وأسأل نفسي: هل هناك عقاب آخر سوى أن يمروا بنفس ما رأيناه؟
أنظر من الشباك فأرى طابور الزيارات. في طابورنا يومها سمح ضباط السيارات الأخرى للسجناء بالنزول وهم مكبلون لالتقاط أنفاسهم لماذا لم يحدث هذا معنا ؟
***
تعود الأصوات والرائحة. بعد كل تسجيل أسترجع فيه ما حدث أبقى نحو أسبوع كامل معتزلا الناس. الصراخ لا يتوقف، ووجه زميلي في الكلابش لا يغيب. حين عاد الوعي كان الباقون مثلي يبحثون عن الهواء مجددا، وعدد آخر في الزاوية يتكدسون في كوم فوق بعضهم.
حين فتحوا الباب زحفت على يدي لأقترب من النور.. كان صديقي في الكلابش لا يتحرك. أمسكت وجهه وبدأت أوقظه. أرفع ذراعه وأصرخ فيه ليفيق، لكنه لم يرد. تدخل جندي وفك الكلابش بيننا وسحبني للخارج.
***
يسألني أهلهم مثلك الآن. ماذا قالوا؟ كلهم سألوا ذات السؤال. لكن المحكمة والنيابة لم تسألاه. كانت النهاية بادية للجميع تقول العيون إنها اقتربت. يصرخ واحد ويدق الآخر ويهدئ الثالث. بعضهم نفد صبره وبدأ يسأل السماء ماذا فعلنا؟ وآخر نادى عليهم: إن كنتم تقتلوننا فالرصاص أفضل. كان زميلي في الكلابش يتمتم لنفسه دون أن يشارك، كان أكبرنا سنا وأكثرنا هدوءًا فظننته صاحب خبرة في الأمر.
سألته ماذا نفعل؟ قال لي: استغفر.
الأمر انتهى.
أوصى شاب بأن نطلب من أمه أن تسامحه، ورجل في الزاوية تذكر ديونا عليه أن يسددها. هل فقدت الوعي حينها؟
***
كانت عيناي معلقتين بالباب ورائي حين خرجت. استغرق الأمر لحظات قبل أن أنقل بصري إلى الخارج. وجدت طابور الاستقبال يضرب بالأيدي والأرجل وأعقاب البنادق وصوت شد أجزاء الأسلحة يرتفع. فكرت للحظة أن أصرخ فيهم ماذا تفعلون؟ تذكرت هذا الضرب الآن لأنني لم أشعر بأي شيء حينها. بددت الفرحة بالتقاط الهواء أي إحساس بالألم. انزويت في ركن أنظر إلى السيارة من بعيد وهم يضربون ويجرجرون من فقدوا وعيهم. عزلونا بعيدا حين اكتشفوا موت البعض. تذكرنا العطش وبدأنا نصرخ طالبين مياها. تجاهلوا الأمر في البداية ثم استجابوا بعد دقائق. حين وصلت أول جرعة مياه لأحشائي لفظتها. لم يعد جسدي مهيئا للشرب.
في الطابور كان ركاب السيارات الأخرى ينظرون إلينا بفزع. يحاولون فهم ما حدث لنا فينهرهم الضباط. أدركت أننا كنا داخل سور السجن. أسلحة. أبراج مراقبة. لا مجال للهرب. فلماذا تركونا هكذا؟ في المساء سحبوني أنا وستة آخرين لتحقيق النيابة. قبل كل شيء سألت المحقق: كان معايا في الكلابش واحد تعبان قوي، ينفع أسأل حالته إيه؟ صمت قليلا ثم طالبني بالتماسك. بهدوء أخبرني أن من معي في التحقيق هم من نجوا فقط. مات الباقون جميعا. ... من مجموعة "من الشباك" الصادرة عن "دار الشروق" يناير 20177