المصريون
جمال سلطان
الفخ التونسي الذي وقعت فيه النخبة المصرية !
فجأة ، انفتحت في تونس "خناقة" فكرية جديدة ، أطلقها محترفون في السلطة ، وهي طرح قانون يجيز زواج المسلمة من غير المسلم ، على غير ما هو معروف في الأحكام الفقهية في الإسلام ، ويجيز تسوية الأبناء في الميراث ، ذكورا وإناثا ، على خلاف مقتضى الآية "للذكر مثل حظ الانثيين" ، وعندما سمعت عن هذه "الخناقة" في مهدها قلت أنها "فخ" جديد وضعه محترفون للنخبة في تونس لكي تذهب بصخبها وضجيجها وعصبيتها بعيدا عن أولويات البلاد والعباد ، وأهمها إنقاذ البلاد من الخراب والكارثة الاقتصادية التي تهددها بالإفلاس بسبب الفساد والنهب وسوء إدارة الثروة الوطنية ، وغياب أي تخطيط جيد لتوفير فرص عمل كريمة للنساء والرجال معا مما أدى لانتشار البطالة على نطاق واسع ، فضلا عن حماية الحقوق والحريات العامة للمواطنين جميعا والتي توسعت انتهاكاتها في العامين الأخيرين ، كما أن الديمقراطية التونسية الهشة نفسها على حافة الخطر .
المفاجأة بالنسبة لي ، أن "الخناقة" اندلعت في مصر ، وليس تونس وحدها ، وإذا بجدل مثير وعصبي وعنيف يتورط فيه إسلاميون ويساريون وليبراليون ، إخوان وسيساوية ، كل يدلي بدلوه ، وكل يتعصب لرأيه ، وكل يصرخ في وجه الآخرين ، بعضهم يتهمهم بالخروج على الدين والاستهزاء بالشريعة ، والآخرون يتهمونهم بالظلامية والاستبداد والتواطؤ على سحق المرأة والعودة للقرون الوسطى ، وكلاهما يهتف عبر مواقع التواصل الاجتماعي : لا تراجع وسنواصل المعركة حتى النصر ؟! ، وما زالت المعركة محتدمة حتى كتابة هذه السطور ، وقد أسفت أن إعلاميا مصريا مثقفا ومعارضا مثل باسم يوسف ، وهو في أمريكا ، صامت تقريبا منذ شهور على ما يحدث في سوريا وفي تونس وفي مصر ، إذا به يثور ويتحرك وينتفض من أجل زواج المسلمة من غير المسلم في تونس ويعتبره فتحا مبينا وانتصارا كبيرا ويشمت في من يخالف ذلك ويهجوه ويسخر منه ؟! .
تونس التي وضعها الحبيب بورقيبة على طريق "التحديث" المتخيل لديه قبل خمسين عاما تقريبا ، انتهى بها "التحديث" إلى صناعة ديكتاتور مستبد وطاغية اسمه "الحبيب بورقيبة" سحق أي مؤسسة في الدولة وجعل الجميع طوع إشارته بالخوف ، مع اتساع نطاق القمع والسجون والعصف بالحريات وتزوير الانتخابات وتلفيق التهم للمعارضين ، وكان لافتا أن بورقيبة وخليفته بن علي ، لا يتذكرون الشريعة الإسلامية إلا عندما يريدون التشهير بمعارضيهم ، فيتهموهم بالتهم التي يعرفون أن الضمير الديني في البلاد يدينها ، فاتهموهم باللواط والشذوذ الجنسي ، رغم أن الحداثة لا تتيح للطاغيتين : بورقيبة وبن علي استخدام تلك التهمة ، ولكنه التوظيف السياسي للدين ، والتوظيف السياسي لعكسه ، أي أنه يبيع بعض الدين لليسار والليبراليين فيلاغيهم ، ويبيع بعضه للمتدينين ليدغدغ مشاعرهم ، وكان من ثمار التحديث في تونس أيضا خراب البنية الأساسية وانهيار الاقتصاد وارتفاع معدلات البطالة ، وانتشار الإرهاب ، حتى أصبحت تونس المصدر الرئيسي للارهاب الداعشي في أوربا وغيرها ، وفق الأرقام الرسمية المعلنة من دوائر دولية متخصصة .
لذلك عندما تطرح السلطة في تونس قضية زواج المسلمة من غير مسلم وتجعلها معركة البلاد والعباد ، والتي تسبق السياسة والاقتصاد والأمن والسياحة والبطالة وخطر الإرهاب ، وتنخرط فيها المعارضة بمختلف أطيافها والصحف والفضائيات ، فنحن أمام "ملعوب" رخيص ، وأرخص منه أن تتورط المعارضة الإسلامية واليسارية والليبرالية فيه ، بدلا من أن تنشغل بأولويات البحث عن فرصة عمل وسكن وعلاج وتعليم لائق للمرأة والرجل ، وضمان الحريات والكرامة الإنسانية ، وترسيخ الديمقراطية ، ثم طرح ما يشاؤون بعد ذلك ، وليتركوا الشعب يختار .
الأغرب أن ذلك "الملعوب" اختارت النخبة المصرية ـ طوعا ـ التورط فيه ، والانخراط في معركته الوهمية ، رغم أنه لا يوجد في مصر أي موجة تذكر من زواج المسلمات من غير المسلمين ، ربما حالات فردية نادرة تصبح خبرا في الصحف إن حدثت لندرتها وغرابتها ، ولا تمثل أي خطر أو أولوية للمرأة في مصر ولا المجتمع ولا الأسر ، ولكن البعض رآها نصرا مبينا ، ودخل في معركة صاخبة مع المخالفين له ، وبدا أن النخبة في مرحلة ترف فكري وسياسي حقيقي ، واسترخاء ، يتيح لأي سلطة أن تسحبها إلى أرضية معركة بعيدة ، أشبه بمعارك ملاعب كرة القدم ، لكي تسترخي السلطة ذاتها وتستريح من صخب المعارضة وضغطها الإعلامي المتوالي .
مشكلة هذا الذي يحدث ليس على المستوى النظري فقط ، بل على المستوى العملي ، تؤدي إلى تمزق الصف الوطني المعارض ، وإضعافه ، وتعزيز الشكوك بين كتله السياسية والأيديولوجية ، فيضعف بعضهم بعضا ، ويضرب بعضهم بعضا ، وتذهب ريحهم ، وهذا قاتل لأي أمل في إنقاذ الوطن أو استعادة الثورة المنكسرة أو حتى الدفاع عن الضحايا المسحوقين في السجون ، والقوى المقموعة والمحاصرة خارج السجون ، أحزابا ومنظمات مجتمع مدني وصحفا وعمالا وحتى فنانين .
ردود فعل النخبة المصرية على "فخ" القرارات التونسية "الملعوبة" ، يفسر لنا بوضوح كاف ، لماذا انكسرت ثورة يناير ، ولماذا تمزقت قواها الوطنية بسهولة وبسرعة ، ولماذا سهل على "اللاعب" الأساس أن يتلاعب بالجميع ويضرب بعضهم ببعض فيعبد الطريق أمامه إلى قصر الاتحادية ، ما زالت ثقافتنا السياسية طفولية ، وعفوية ، وغير ناضجة ، وما زلنا نفتقد للحد الأدنى من الإجماع الوطني الذي يحمي صلابة جبهة وطنية قادرة على التوحد لإنقاذ البلاد ، ويعذر بعضهم بعضا في بعض الاختلاف الذي هو لصيق بنا كبشر إلى يوم الدين ، وما زال أي مستبد صغير ومحدود الكفاءة ، يملك أدوات تمزيق الصف الوطني المعارض بسهولة ، ويملك الكثير من تلك "الفخاخ" التي يمكنه أن يطرحها كل حين عندما يشعر أن الأمور ضاقت من حوله .
مع الأسف ، ما زلنا غير جديرين بوطن حر ونظام سياسي عقلاني وحداثي وديمقراطي .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف