صدر للكاتب الصحفى الزميل نبيل عمر، عن دار دلتا للنشر والتوزيع، عمل بعنوان «زوجات أبى»، صنفه هو، فى عنوان فرعى تذيل الغلاف، على أنه «رواية حياة»، على أساس أنه نوع من السيرة الذاتية. وأقول «نوعا» لأن الكتاب لا يمثل سيرة ذاتية نمطية؛ بل هو مجموعة لقطات من حياة كاتبه أقرب من حيث الشكل إلى المجموعة القصصية منها إلى الرواية أو السيرة التقليدية. والحق أن مشكلتى الوحيدة مع هذا العمل الجميل لا تتعدى الغلاف إلى المتن. فلى على الغلاف اعتراض مزدوج يخص العنوانين الفرعى والرئيسى: فوصف العمل على أنه رواية به بعض التعسُّف. أما الاعتراض الرئيسى فهو على العنوان الرئيسى : «زوجات أبى»، لأنه يشير إلى تفصيلة من تفاصيل حياة الشخصية المحورية، وهّى أن أباه كان مزواجاً، أما الزوجات أنفسهن فلا يرسم لهن ملامح، عدا واحدة وصفها فى بضعة أسطر، وعدا الأم بالطبع التى هى إحدى شخصيات العمل الرئيسية. الخلاصة: العنوان غير معبِّر عن العمل ككل بل عن إحدى تفاصيله.
أمّا وقد قلبنا صفحة الغلاف، فليس لى بعدها من ملحوظات إلا عبارات الثناء والإعجاب .فالقالب الذى اختاره نبيل عمر لسيرته الذاتية غير النمطية: وهو مجموعة بورتريهات، فى فصول شبه مستقلة، لعدد من الوجوه التى كان لها حضور مؤثر فى حياته، ومن اللحظات أو المواقف التى كان لها أثر حاسم فى نفسه ووجدانه - هذه المرايا التى عكست وجوهاً لها حكايات شارك فى بطولتها الكاتب / الراوى/ بطل الحكاية الأم، لها فضيلتان أسلوبيتان: أولها الاختزال والتكثيف والتخلص من تفاصيل حياتية كثيرة يصنفها فن المونتاج السينمائى على أنها «آكشن» أو «حدث» ضعيف ومن البلاغة التخلص منه. فاختزال حياة الكاتب فى اللحظات والمواقف والوجوه التى انحفرت فى نفسه، يغنيه عن سرد تفاصيل كثيرة فى حياته تعمر بها فصول السرد التقليدى للسيرة الذاتية ولا تضيف للعمل إلا الملل والرتابة والإطناب. أما الفضيلة الثانية فهى التوازن بين الشخصية المركزية وبين الشخصيات الرئيسية المؤثرة فى حياته, من خلال إعطاء كل شخصية من هؤلاء دور البطولة فى الفصل - أو الفصول - المتعلقة به وبحكايته مع بطل الحكاية الأم، أو مع غيره من الشخصيات. وهذا الشكل قريب بعض الشىء من بناء عمل «نجيب محفوظ»: «المرايا»، الذى وصفه محفوظ أيضاً بأنه رواية، بينما الأصدق أنه مجموعة بورتريهات، أو مرايا انعكست فيها وجوه قابلها الكاتب فى حياته. إلا أن كتاب نبيل عمر أقرب إلى السيرة الذاتية من «مرايا» محفوظ التى لا يشارك فيها كاتبها البطولة مع وجوه مراياه أو قصصه أو بورتريهاته فى ذلك العمل، ولا تمثل تلك الوجوه جزءاً عضوياً فى حكاية الكاتب نفسه, عكس الحال مع كتاب نبيل عمر. ومن خلال تلك اللقطات استطاع عمر أن يرسم لوحة متكاملة - وإن كانت غير شاملة - لحياته، تمتّع فيها بعين ذكية غير نرجسية أعطت للشخصيات المرسومة حقها من الفهم والاهتمام، بدءا من الأم والأب والجدتين والخؤولة والعمومة وبعض أبنائهما، وامتداداً إلى الجيران والجارات والأصدقاء ورفاق المدرسة ثم العمل. وكانت يده بارعة فى رسم تلك الشخصيات رسماً وافياً فى سطور قليلة، اعتماداً على الموقف، وابتعاداً عن التفاصيل غير المتعلقة باللحظة الفارقة التى تكشف جوهر الشخصية. وحقق عمر فى الشكل الذى قدمه جماليات القصة القصيرة المعتمدة على الومضة الحياتية أو الموقف المكثف، إضافة للتكامل التى تتصف به فصول الرواية أو السيرة. ورغم بساطة لغته السردية وعدم ادعائها، أو بسبب هذه البساطة والبعد عن الادعاء والتفاصح، قدّم لنا نصاً جميلاً ينم عن ثقافة كاتبه واعتداله النفسى، فى سيرة لم تهمل الشخصيات التى تداخلت حكاياتها مع حكاية الذات المركزية, فأعطتها بطولات الكثير من الفصول ورسمتها بفهم وتعاطف وذكاء وبصيرة.. فى كتاب يمكن وصفه بكلمة واحدة: ممتع.