جمال سلطان
تحية إعزاز وتقدير للأزهر وشيخه
مرة أخرى يتصدى الأزهر الشريف لنزق بعض الأفكار المستهترة ، والتي توظف الدين وقضاياه لحسابات سياسية ، ويعلن رفضه لما اقترحه الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي من التلاعب بأحكام المواريث في الإسلام ، وهي الثابتة بنصوص قطعية الثبوت وقطعية الدلالة على النحو الذي أوضحه بيان الأزهر ، والذي قال في بيانه : (أن مثل هذه الأحكام لا تَقْبَلُ الخوضَ فيها بفكرةٍ جامحةٍ، أو أطروحةٍ لا تستندُ إلى عِلم صحيح وتصادم القطعي من القواعد والنصوص، وتستفزُّ الجماهير المسلمة المُستمسِكةِ بدينها، وتفتح الباب لضرب استقرار المجتمعات المسلمة. ومما يجبُ أن يعلمه الجميع أنَّ القطعيَّ شرعًا هو منطقيٌّ عقلًا باتفاقِ العلماءِ والعقلاء) ، وختم الأزهر بيانه المحكم والعقلاني بقوله : (والأزهر إذ يُؤكِّد على هذه الحقائقَ إنما يقوم بدوره الدينيِّ والوطنيِّ، والذي ائتمنه عليه المسلمون عبر القرون، والأزهر وهو يُؤدِّي هذا الواجب لا ينبغي أن يُفْهَمَ منه أنه يتدخَّلُ في شؤونِ أحد ولا في سياسةِ دولة ما) .
والأزهر في تلك الإشارة الختامية يرد أيضا على بعض المتطرفين العلمانيين في تونس الذين قالوا أن الأزهر إذ يوضح هذا الحكم الشرعي إنما يتدخل في شؤون دولة أخرى ، وهو كلام بائس في منطقه وساقط في حجته ، لأن قواعد دين الإسلام ليست شأنا خاصا بدولة أو أخرى ، صحيح أنه يمكن لكل دولة أن تختار ما تشاء من قوانين طالما اجتمعت إرادة شعبها على ذلك ، ولكن لا يمسح ذلك بالإسلام ، أو يوصف بأنه اجتهاد في الدين ، هو اختيار سياسي يتحمل أصحابه نتائجه ، أما الدين فهو علم وأصول وقواعد ثابتة ، وليس كل زعيم سياسي يفتي فيه ويقرر الحق والباطل فيه ، وإنما علماء الأمة ومؤسساتها الدينية المشهود لها تاريخيا بالعلم والوسطية هي التي تقرر ذلك وتوضحه ، دون وصاية من أحد عليها .
وفيما يتعلق بتلك القضية تحديدا ، والردود التونسية ، أذكر بأن الإمام الأكبر للأزهر الشريف وشيخه في فترة خصيبة من النصف الأول للقرن العشرين ، كان تونسيا ، وهو العلامة الشيخ محمد الخضر حسين ، رحمه الله ، وكان يرأس هيئة كبار علماء الأزهر ، ويتولى منصب المشيخة نفسه ، وكان صاحب علم وفضل ومواقف مبهرة في وجه من يتهجمون على الإسلام أو يستهترون بأحكامه سواء في مصر أو خارجها ، فالأزهر ـ في جوهره ـ ليس مؤسسة مصرية بالمفهوم السياسي ، وإنما هو مؤسسة دينية إسلامية عالمية الطابع ، وقد تخرج منها عشرات الآلاف من العلماء والأئمة في مختلف أنحاء العالم .
الأزهر الشريف عندما تصدى لتلك القضية لم يتصدى لها من أي منظور سياسي ، وإنما من منظور علمي ديني محض ، باعتبار أنه معني أمام الله وأمام الناس بتوضيح أحكام الشريعة الغراء ، حتى لا تكون عرضة للمتطرفين الدينيين أو العلمانيين ، ولأن الأزهر إذا سكت عن تلك القضية في وقت الحاجة إلى البيان فيها سيعتبر رضا منه عليها ، وسيسجل تاريخيا أن هذا الرأي عرض أمامه والتزم الصمت ، وفي ذلك فتنة للناس كبيرة ، وإثارة للاضطراب الاجتماعي بالفعل كما أشار بيان الأزهر ، ومن ثم ، كان بيان الأزهر فيها ضرورة دون نظر إلى أي عواقب سياسية لذلك الموقف .
وقد تعرض الأزهر وشيخه ـ كالعادة ـ إلى الهجوم والغمز واللمز السياسي ، في تونس ومصر على حد سواء ، لأن موقفه الواضح أحرج المتطرفين العلمانيين في تونس ، كما أن موقفه حاول أن يستغله البعض في مصر من أجل تصفية الحساب مع شيخه على خلفية مواقفه الأخرى التي ترفض تطويع الأزهر ومواقفه لخدمة توجهات سلطوية لا يرضى عنها ولا يقبلها ضمير علمائه .
بيان الأزهر قطع الطريق على نزعات التكفير والفوضى الدينية التي افتعلها بعض مثيري الجدل من الشخصيات المحسوبة على الدعوة والدعاة ، مثل المدعو وجدي غنيم ، المقيم في تركيا ، والذي أصدر فتوى متطرفة ونزقة يكفر فيها الرئيس التونسي وقيادات حزبه ، فخلط الأمور ، وجرف القضية إلى أبعاد أخرى تسيء إلى الدين والشريعة معا .
كل التحية والتقدير للأزهر الشريف وشيخه فضيلة الإمام الطيب ، ومن واجب كل وطني محب لمصر وللإسلام أن يدعمه في صلابته وأمانته وحرصه على جلاء الحق وحماية قواعد الإسلام من أي مستهتر ونزق ، خاصة في تلك الأوقات المشحونة بالفوضى من كل من هب ودب .