أميرة ملش
تحية كاريوكا في زمن تحرش المشايخ
فى الماضى كانت نجمات السينما فى مصر يرتدين ما يحلو لهن، كن بوصلة السيدات والفتيات لمعرفة خطوط الموضة، الفساتين، الشعر، الماكياج، موديلات المايوهات الجديدة كل صيف. وكانت بدل الرقص أكثر عريًا من الآن.. هذه حقيقة يكتشفها ببساطة من يتابع رقصة للفنانة سامية جمال على سبيل المثال، ومن يشاهد رقصة لصوفينار وزميلاتها.. ويلاحظها بوضوح من يرى فيلمًا لهند رستم، ويتابع أى فيلم حديث خلال السنوات القليلة الماضية.. ولكن بالأمس لم يكن المشاهد المصرى يرى أن فى ذلك ابتذالًا أو خدشًا للحياء، وإنما الآن إذا تجرأت ممثلة أو راقصة وارتدت ملابس عارية أو نشرت لها صورة بالمايوه تتهد الدنيا.
لعل السبب يكمن فى التغير الثقافى للمجتمع المصرى، الذى طرأ عليه منذ سبعينيات القرن الماضى، عندما صعدت الجماعات الإسلامية على السطح، وخرج الإخوان على المجتمع بنفسيات وأفكار مريضة، تتعلق بأن المرأة عورة، ومن هنا جاء الرخص فى النظرة للمرأة.. هذه الأفكار السوداء هى المسئولة عن تراجع المصريين بشكل كبير فى كل شىء، حتى فى الذوق الذى انهار، وفى التركيبة النفسية التى تدمرت، فأصبحوا يعجبون بكل قبيح ويرفضون كل جميل، يطالبون النساء بالحجاب وتغطية أجسادهن، وتسعدهم راقصة لا تمت للرقص بشىء، هى فقط تهتز وترتدى شيئًا قبيحًا، لكنه مثير.. يصفقون لكتابٍ سطحى ورواية تافهة، ويتركون الكتاب الحقيقى، والروايات العميقة التى تصلح وتعلى من شأن المجتمع.. فقد فقدوا حتى ميزة الفرز والإحساس بالوهم والحقيقة.
ففى الماضى كانت الراقصات يقدمن فنًا جميلًا يُسعد الناس، بأداء راقٍ، وفن يسلب العقول، اعتمادًا على خطوات فنية رشيقة واستعراضات بُذل فيها مجهود كبير لتحصل على إعجاب، وتحصد تصفيق الجماهير، وكانت المنافسة بينهن على من ترقص أفضل، أما الآن فقد أصبحن مجرد سلعة، هن يعتبرن أنفسهن كذلك للأسف، فانطبع ذلك على الجمهور، فأصبحت الراقصات الآن يؤدين خطوات الرقص ببذاءة اعتمادًا على تحريك منطقة أو منطقتين من جسدهن فقط، بابتذال شديد وكأن الهدف هو إثارة الغرائز فقط، وليس الاستمتاع بحلاوة الرقص الشرقى، وعذوبة رشاقة الجسد، وأصبحت بدل الرقص، رغم أنه يبدو أنها أقل عريًا وأكثر تحفظًا من الماضى، إلا أنه يبدو أنها صممت فقط لإثارة الغرائز، وهو ما جعل السوق المصرية تكتظ بالراقصات الأجانب اللائى يؤدين حركات بعينها فقط، وتقريبًا هى ثلاث أو أربع حركات فقط، محفوظة صم دون أى إبداع من الراقصة، فى استعراضات تخلو تمامًا من الروح، فيشعر البعض بالاشمئزاز وهو يتابعهن وليس الاستمتاع والسعادة..
من يشاهد رقصات سامية جمال وتحية كاريوكا وزينات علوى.. يدرك أنه بمجرد أن تبدأ إحداهن رقصتها تأخذك إلى عالم آخر، بروحها وإحساسها بالموسيقى، وجمال خطوتها وحلاوة رشاقتها، وشياكة بدلتها، وإبداعها الحقيقى فى الرقص، ولا أحد كان يلاحظ أو يشغل باله أن البدلة عارية كاشفة أم لا، لأنها تؤدى الرقص برقى، لا تؤديه لكى تحصل على إعجاب الناس بتضاريس جسدها، أو أن تخطف الأنظار للتعلق بجزء ما يهتز بسرعة، كما يحدث الآن، وهو ما يفسر عمليات التجميل لتكبير الصدر مثلًا للراقصات الجدد، وتكبير أى جزء ترى أنه هو الذى يجذب إليها الأنظار، ولا يوجد لديهن فكرة أن الرقص هو الذى سيخطف الأنظار، ولذلك فقد أصبحن جميعًا شبه بعض فى كل شىء، الجسم والوجه والرقص، لا تمييز بين واحدة وأخرى. فقد كانت نعيمة عاكف نحيفة بعض الشىء.. ولكنها إذا رقصت وتمايلت وانحنت وانثنت ودارت، فى حركات رائعة كأنها راقصة باليه أو فراشة، تقلب الدنيا رأسًا على عقب، وتمتع من يشاهدها وتسرقه لمتابعتها، من غير أن تجرى أى عمليات تجميل لجسدها لا تكبير ولا تصغير أى جزء، أو حتى وجهها، وكذلك كان حال كل راقصات الزمن الجميل، ودون أن تعتمد على منطقة واحدة فقط تحركها أثناء أدائها الرقص، ولذلك كان لفن الرقص الشرقى جماله وأهميته ورصيده الكبير، ومن هنا ذاع صيته على مستوى العالم وأصبح له مريدون، فلم يكن شيئًا رخيصًا أو مبتذلًا. وحتى الممثلات.. نجمات السينما وإذا قلنا ما كان يطلق عليهن «ممثلة إغراء» فقد كان مفهوم الإغراء هو الآخر مختلفًا عن الآن، كان أيضًا يمارس بشكل راقٍ وممتع ولكن الآن يمارس بجهل وعن جهل، كما أن جهاز استقبال المجتمع أصبح أكثر انغلاقًا عن الماضى، لا يحتمل هذا النوع من التمثيل، ولم يعد يفرز الحقيقى من المزيف، ولا يفرق بين الحرية والانحلال بعد موجات الظلام الفكرى التى تعرض لها.
فلم يكن هناك هجوم على «هند رستم» أو «برلنتى عبدالحميد» المصنفتين كنجمتى إغراء، أو على من يؤدين أدوار إغراء مثل «هدى سلطان»، و«سعاد حسنى»، بالعكس كان لهما احترامهما ومحبتهما فى نفوس الناس، أما الآن لو تجرأت إحداهن وارتدت ملابس متحررة وجريئة تصب عليها اللعنات وتصدر ضدها أقذر الشائعات لمجرد أنها ترتدى ما يوافق ذوقها، وهو راجع لفكر المتطرفين، الذى جعل المرأة رخيصة، كلها عورة بداية من صوتها، ولذلك يجب أن تتغطى بالكامل، كأن جسدها خطيئة يجب مداراتها، وكأنها لا بد أن تعاقب لأنها ولدت أنثى، فالمتطرفون همهم الأكبر هو النساء، وكأنهم اختصروا الدين الإسلامى كله فى الستات «تلبس ايه وما تلبسش إيه» فى إهانة كبرى للدين وللمسلمين بعد أن صدروا للعالم كله أن المسلمين لا يهمهم سوى النساء، يفجرون أنفسهم للفوز بحور العين، فى زمن المشايخ المتحرشين.
وللأسف غمر الفكر المتطرف الجاهل عقول المجتمع المصرى وسيطر على غالبيتها بدعم كامل من حكام رغبوا فى السيطرة على الحكم عن طريقهم، مثل الرئيس الراحل «محمد أنور السادات» وخليفته فى ملاعب العبث بعقول ووعى المصريين المخلوع «حسنى مبارك»، فقد مكنا الإخوان والجماعات الاسلامية من مصر وتركوهم يعيثون فى عقول الناس فسادًا، وهى جريمة لن يغفرها التاريخ لأى منهما.
وبناءً على ذلك تصعد بين الحين والآخر موجة من الجدل على ارتداء فنانة للمايوه، وتعلو أصوات الهجوم والشتائم واللعنات، فقد خدشت حياء المجتمع الذى يترك أبناءه يتحرشون بالسيدات فى الشارع، فى الزمن الماضى كانت النساء ترتدى المايوه فى كل شواطئ مصر وعلى رأسها الشواطئ العامة التى ترتادها الطبقات المتوسطة والفقيرة فى الإسكندرية ورأس البر، وكانت المجلات الفنية تتسابق لتحصل على صور نجمات السينما والتليفزيون وهن على الشواطئ بالمايوهات يقضين إجازاتهن الصيفية، لم يكن هذا عيبًا، أما الآن فإن المايوه أصبح كارثة، ويعد انحلالًا وقلة أدب، فكيف تسمح المرأة للرجال بأن يشاهدوا جسدها عاريًا؟! وهو إن دل على شىء فإنما يدل على النظرة الرخيصة للمرأة كما قلت، النظرة التى تدل على الاختلاف الكبير جدًا بين مصر الواعية والراقية قديمًا ومصر الجاهلة حديثًا، التى سقطت فى مستنقع الجهل والتطرف والبذاءة.