عمرو حسنى
«النبي قبل الهدية» على مسارح الثقافة الجماهيرية
فكرة تفكيك الكيان المسمى قديمًا بالثقافة الجماهيرية، وتوزيع قصوره الثقافية بمسارحها وأنشطتها على المحليات فى مختلف المحافظات حتى تتفرق دماؤها بين إدارات الأحياء ومجالسها، فكرة شيطانية تدل على أن الفساد لا يعدم حيلة لتدعيم مصادر رزقه الحرام، وتنشيط جريان الماء فى بحاره التى تعشق الزيادة. أقول هذا كرئيس تحرير سابق لمجلة قطر الندى، التى تصدرها هيئة قصور الثقافة، ارتبط عمله لسنوات بالتعاملات الورقية مع مختلف إداراتها، وكنت أشكو دائمًا من قصور الفهم الإدارى والعجز عن اتخاذ القرار، اللذين يقودان بجدارة إلى "قصور" فى مساعدة أصحاب الرؤى التقدمية على تقديم منتجات ثقافية لها قيمتها. وهى مشكلة لا تنفرد بها الثقافة الجماهيرية وحدها، ولكنها سمة أصيلة تسىء إلى العمل الثقافى فى كافة هيئات وقطاعات وزارة الثقافة بأسرها، وللحق، هى سمة مصرية لا تخلو منها إدارة حكومية واحدة، تتفاوت حدتها من وزارة إلى أخرى. لكن هذا لا يعنى أن نسند مثلاً إدارة مرفق السكك الحديدية، لأننا لا نثق فى كفاءة القائمين على أمره، إلى هيئة مطاحن ومخابز القاهرة الكبرى التى يكفيها، ولا شك، سوسها الذى ينخر فى قمحها وطحينها. أزمة ذلك المقترح العجيب بإلحاق قصور الثقافة إلى المحليات، تكمن فى وهم محاولة إصلاح الطبخة الثقافية الناتجة عن سوء الإدارة، بتسليم المطبخ بأكمله من بابه إلى تنظيمات تشتهر بتلوث أياديها، وكل علاقتها بالثقافة تندرج تحت باب ثقافة التعامى عن العيوب لملء الجيوب! أى أن صاحب ذلك التوجه يضيف السم إلى الطبخة التى يشكو من سوء طعمها! فى بلد يزعم مسؤولوه أنهم يحاربون الفساد، ويبحثون عن وسائل ثقافية مبتكرة تجدد الخطاب الدينى وتحد من سطوة الجمود الفكرى، يتم تقديم هيئة ثقافية كاملة بمسارحها ومكتباتها وأنشطتها، التى تستهدف تثقيف الصغار والكبار، كلقمة سائغة على طبق من ذهب لكيان وصفه واحد من كبار الفاسدين فى عصر المخلوع المدان بالتربح الوظيفى بحكم قضائى بات: بأن "فساد المحليات للركب"! وإمعانًا فى الكوميديا السوداء أقول: لماذا لا يتم تسليم مستشفيات وزارة الصحة، المتدهورة الأداء منذ الأزل، هى الأخرى إلى المحليات لتقوم بإدارتها بنفس منطق اختيارها لإدارة قصور الثقافة؟ نريد ردًّا من العبقرى صاحب ذلك الاقتراح.
رحم الله سعد كامل المثقف الاشتراكى الكبير صاحب الرؤية، الذى ابتدع فى الستينيات فكرة الثقافة الجماهيرية بقصورها ومسارحها، لاستخدام الثقافتين المحلية والعالمية لتبصير الشعب بالتحديات التى يواجهها على طريق التنوير، وحلولها المستلهمة من الفكر الإنسانى والفنون على اختلاف أزمانها وأماكنها، وجند لذلك الغرض النبيل طلائع شعراء الأقاليم وقصاصيها، الذين وجدوا لأنفسهم دورًا وظيفيًّا يتماشى مع حلمهم بوطن أجمل. من قال إن تدهور الفكرة النبيلة فى عصور الانحطاط يعنى أن نسلم القط مفتاح الكرار؟ لا توجد عندى ذرة شك واحدة أن موظفى المحليات، لو أتيحت لهم تلك الفرصة الذهبية، سيقدمون أعمالاً درامية طليعية وأوبريتات غنائية، يكتبونها بأقلامهم لتقديمها على مسارح قصور الثقافة التابعة لأحيائهم، بعناوين جريئة مثل "أبجنى تجدنى"، و"استغلال الموظفين لثغرات اللوائح والقوانين"، و"تمرير مخالفات البناء لأصحاب المعالى والأثرياء"، وكلها أعمال سفلية تثرى عقول الأطفال بثقافة عصور الانحطاط، وتؤكد لهم أن الرزق يحب إغماض العيون والاستنصاح والخفية، وتعلمهم أن الرشوة حلال، لأن النبى ذات نفسه قبل الهدية!