التحرير
أشرف الصباغ
كيف يتم تحويل سوريا إلى دولة وهمية؟!
يجري الآن تحويل سوريا إلى دولة وهمية، بصرف النظر عن بقاء بشار الأسد وحاشيته في السلطة أو اقتلاعهم منها. إذا كان قد تم تحويل العراق من قبل إلى دولة وهمية بنتيجة معادلات وتحولات أخرى في زمن وظروف مختلفة، وأصبح العراق منقسما ومفتتا وأقرب إلى شبه دويلات طائفية وعرقية، فالعملية في سوريا تجري مع سبق الإصرار والترصد، ومع وضع كل المقدمات الممكنة للوصول إلى هذه النتيجة. لقد تم تحويل العراق إلى شبه دولة على أرض الواقع، بينما تواطأت كل وسائل الإعلام، وتواطأ المحللون السياسيون والاستراتيجيون، والساسة الإقليميون والدوليون على طرح العراق الجديد كدولة ديمقراطية تنعم بالأمان والاستقرار على المديين المتوسط والبعيد، عبر تصريحات ومؤتمرات وتحالفات أقرب إلى العبث والتضليل، بينما العراق هو ما نرى بقاياه ومخلفاته على أرض الواقع في الوقت الراهن. ولا شك أن القوة الجبارة لوسائل الإعلام والترتيبات الدولية والإقليمية قد أسهمت في تدشين صورة كاذبة ووهمية وتضليلية في وعي الرأي العام العراقي والإقليمي والدولي، بينما الصورة الحقيقية تؤكد أنه بات دولة غير حقيقية لا تتمتع بأي مبدأ من مبادئ وجود الدولة، على الرغم من أننا نجد كل هذه المبادئ في وسائل الإعلام والتصريحات السياسية والمؤتمرات الدولية. اليوم نجد وسائل الإعلام تؤكد أن "السياحة في سوريا منتعشة"، وأن "فخامة الرئيس بشار الأسد يزور قمم الجبال المحيطة بدمشق"، وأن "سوريا تقوم الآن بتصنيع ثلاثة أنواع من السيارات"، وأن "الجيش العربي السوري، وبعد ٦ سنوات، بدأ يتقدم في ريف دمشق وحلب"، وأن "القوات السورية قضت على داعش أو في طريقها إلى ذلك"، وأن "دمشق هي قلعة العروبة وحامية حمى الأمة العربية، وسوف يسقط العرب بسقوط بشار الأسد"..... وعشرات من العناوين التي تعكس إما الانفصال التام عن الواقع، وإما التواطؤ مع ما يجري، أو تدبيج بيانات ورص خطب عصماء تذكِّزنا بأمجاد البعث والعروبة والصمود والتصدي. كل ذلك يصنع صورة مزيفة وتضليلية عن سوريا التي يرغب البعض في رؤيتها، وبين الواقع المرير والمرعب، بين الصورة الوهمية التي يريد البعض تأسيس سوريا عليها بوجود الأسد أو بغير وجوده، وسوريا التي تحولت إلى دكاكين طائفية ومذهبية وعرقية وكانتونات جغرافية مبنية في الأساس على الطائفي والعرقي والمذهبي، برعاية ساسة وتجار من الداخل والخارج. والأخطر أن وسائل الإعلام "الرديئة وغير المهنية" تسهم بنصيب وافر في هذا السيناريو. فهي تتلقى بيانات "الصمود والتصدي" و"عرائض وتوقيعات" بإعادة العلاقات الدبلوماسية مع نظام الأسد، وتهلل وتطبِّل لمهرجانات ومعارض وجولات وهمية لتضليل الرأي العام، وتزييف الوعي السوري بالدرجة الأولى. فعن أي "إعادة للعلاقات الدبلوماسية" مع الأسد يدور الحديث؟! إن ذلك يمثل أحد أهم المحاور التي يعتمد عليها تحويل سوريا إلى دولة وهمية، فأي علاقات "دبلوماسية" في "دولة وهمية.. فقدت خيرة شبابها وبنيتها التحتية"، ولم تربح إلا الأسد وطغمته وأوهامه، يمكنها أن تؤسس لدولة حقيقية؟! إننا ببساطة نعيد نفس أخطاء الماضي في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات. نفس الأخطاء المبنية على العاطفة والأوهام والتخيلات والحسابات غير الدقيقة، المبنية بدورها على انفصال تام عن الواقع، وعلى العمى السياسي والإنساني. لقد اعترف "فخامة الرئيس السوري" بشار الأسد أمام العالم كله بقوله: لقد "خسرنا خيرة شبابنا والبنية التحتية، لكننا ربحنا مجتمعا أكثر صحة وتجانسا". هذه العبارة التي ستدخل التاريخ من أوسع أبوابه، لا تعكس إلا انفصالا كاملا عن الواقع، وغيابا تاما للعقل والمنطق، وتعيدنا إلى عبارات هتلر "المجيدة" التي دمرت ليس فقط ألمانيا، وإنما أوروبا بشكل شبه كامل، وعرَّضت ملايين البشر للإبادة.

إننا هنا أمام معادلة في منتهى الخطورة تحاول أن ترسِّخ في وعينا أن "سوريا الأسدية" فقدت خيرة شبابها، وتشردت خيرة شعبها، ودُمِّرَت بنيتها التحتية، ولكنها لا تزال تحيا وتعيش. والحياة هنا مرتبطة بوجود وحياة الرمز والأب القائد بشار الأسد وحاشيته وأقاربه، لا بوجود المواطنين والأفراد والناس والمؤسسات والبنى التحتية. ويبدو أن هذه هي الدولة التي يريدها الكثيرون إقليميا ودوليا، وقبل كل شيء، الأسد نفسه لكي يبقى رئيسا وأبا وقائدا ملهما وجبارا. قد يبقى بشار الأسد في السلطة، أو يُطاح به بطريقة أو بأخرى، فهذه مسألة لم يعد يقررها هو، بالضبط مثلما حدث مع صدام حسين. ولكن سوريا -الدولة والشعب والمؤسسات والبنى التحتية والمنظومات والحدود الإدارية- لن تكون موجودة بالشكل المتعارَف عليه بالنسبة للدولة. وكما حدث للعراق خلال ربع القرن الأخير، سيحدث لسوريا. وسيكون هناك كيانان وهميان متجاوران، يمكن أن نضيف إليهما لبنان، ذلك الوطن "الثقافي - الفني" أكثر منه كيان دولة، لأن لبنان دخل التجربة قبل العراق وسوريا وتم تفتيته مع الحفاظ على تلك الشرنقة الخارجية التي تسعى بكل الطرق لإقناع الرأي العام بأن هناك "دولة" لبنانية، بينما ما يجرى، وما جرى، نعرفه جميعا، وتعرفه الأجيال التي عاصرت الحرب الأهلية اللبنانية واكتوت بنارها وما زالت تعيش آثارها ومخلفاتها. وربما يكون لبنان قائما على وجه الأرض بفضل قوة وعزيمة هذه الأجيال التي احتملت كل موبقات القصف والهدم والتدمير، ولم يكن أمام أبناء هذا البلد المخلصين إلا أن يحافظوا ولو حتى على صورة لبنان ومقوماته الثقافية والفنية الجبارة، من أجل غد أفضل يستطيعون فيه إكمال مسيرتهم بإعادته إلى أجمل وأرقى بقعة في الصحراء المحيطة بهم. سوريا تتحول إلى دولة وهمية مع سبق الإصرار والترصد، حتى ولو بقى الأسد سبعين عاما أخرى في السلطة. ويبدو أن القوى الإقليمية والدولية، بمباركة الأسد وحراسه وبرضائهم، قد قررت ذلك. وبالتالي، لن تكون مفاجأة أن يظل الأسد في السلطة، لأنه ببساطة هو الشخصية الوحيدة التي توفر كل الظروف الممكنة لوجود هذه الدولة الوهمية، بل والشخصية الوحيدة التي أصبحت مناسبة الآن لجميع الأطراف. ولا يمكن هنا أن نتجاهل الخيارات الشحيحة: الأسد أو الفوضى.. الأسد أو الإرهاب.. الأسد أو سقوط المنطقة.. الأسد أو انهيار العالم! إنها نفس الخيارات الجهنمية التي ترتكز إليها وسائل الإعلام، وينطلق منها مؤسسو "سوريا الوهمية". لا أحد يقول أو يجرؤ أن يقول "نعم للإرهاب أو التطرف"، ولا أحد عاقلا يمكنه أن يقبل "خسرنا خيرة شبابنا والبنية التحتية، لكننا ربحنا مجتمعا أكثر صحة وتجانسا". فعن أي صحة وتجانس يدور الحديث؟! بينما "خسرنا خيرة شبابنا والبنية التحتية"! إن وجود سوريا وهمية إلى جانب العراق الوهمي، هو مجرد مقدمة لتحولات أخرى أشد وطأة وضراوة في كل الدول المجاورة لهما، وبالذات دول الخليج وتركيا وإيران ولبنان. والغريب أن هذا يجرى الآن كضرورة ملحة وليس كإجراءات عفوية أو نتائج لأسباب قد نقبلها أو نرفضها. فلم تعد رفاهية القبول والرفض والاختيار متاحة أمام الأمر الواقع، وأمام تلك العملية الدولية - الإقليمية المعقدة. هنا تأتي ليبيا التي تقف على حافة هذا الطريق المرعب. وستسقط فيه بمجرد أن يستعين أحد أطرافها بقوى خارجية، على الرغم من الوجود القوي لهذه القوى في الداخل الليبي وجواره. ولكن يبدو أن دور ليبيا لم يأت بعد بنفس الوتيرة في العراق وسوريا. إن مصر والجزائر وتونس وتشاد ومالي والسودان مسؤولة مسؤولية كاملة عن عدم وقوع ليبيا في فخ "الدولة الوهمية". وربما تكون مسؤولية مصر وتونس والجزائر هى الأكبر، لأنها ستتكبد الكثير من الخسائر، وستواجه المزيد من التهديدات في حال تحويل ليبيا إلى دولة وهمية. الحديث لا يدور هنا حول الاختيار بين الأسد والإرهاب، ولا بين الأسد وقوى معارضة مفتتة ومنهكة ومتهالكة ومستقطَبَة. ولا يتوخى المزيد من التضليل أو التزييف أو يناصر التطرف والمذهبية، وإنما يدور تحديدا حول المستقبل.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف