الوطن
عبد العظيم درويش
عندما تصبح الصلاة «جريمة»..!
للراحل الشهيد أنور السادات تعبير شهير «المحاكمة بتهمة الغباء السياسى».. وهو التعبير الذى ينطبق تماماً على ما أقدم عليه عدد من قيادات الشرطة بمحافظة المنيا بمنع مسيحيى عزبة محمد موسى الشهيرة بعزبة «الفرن» بجنوب المحافظة، من أداء «قداس الأحد»، منعاً لوقوع احتقان وربما مصادمات مع الأهالى من المسلمين الذين يعترضون على إقامة شعائر كنسية بمنزل قبل الحصول على ترخيص.. هكذا كانت حجة هذه القيادات، بينما الحقيقة تؤكد أن مسيحيى العزبة اعتادوا الصلاة فى هذا المكان الذى يقع وسط منطقة مكتظة بمساكن الأقباط، حيث يقطن العزبة نحو 250 مواطناً مسيحياً.. وبالمناسبة فإن هذا المكان ما هو إلا مبنى «جمعية قبطية» مشهرة بالتضامن الاجتماعى منذ سنوات طويلة، لإقامة «القداس»، غير أن قيادات الداخلية «الغيورين على سلامة المجتمع وأمنه» تمترسوا خلف الحواجز الأمنية عند مداخل القرية ليمنعوا أيضاً «قس القداس» من الوصول للمكان، حيث ظل خلف الحواجز الأمنية على مسافة بعيدة من المبنى، وأثناء ذلك بدأ مسيحيون يرتلون بالشارع «كيرليسون كيرليسون» أى «ارحمنا يا الله» فسارع الأمن بتفريقهم وإلزامهم بدخول منازلهم، كما لو كان هؤلاء «من الخارجين عن القانون» وكانوا يعتزمون ترويج «المخدرات» وليس الصلاة!!

حتى هذه اللحظة لا أفهم أى منطق استند إليه من أصدر أوامره بمنع هؤلاء البسطاء من إقامة «قداسهم».. ولا أستوعب أن أحداً حتى الآن لا يعى ماذا يعنى «يوم الأحد» بالنسبة للإخوة المسيحيين، فهو يماثل تماماً «يوم الجمعة» عند المسلمين، الذين يفترشون الميادين والشوارع فى معظم الحالات لأداء «الصلاة» دون أن يعترضهم أحد!

الغريب فى الأمر أن قرار قيادات الداخلية بمنع إقامة القداس جاء قبل ساعات قليلة من احتفال مصر بعيد «تصعيد العذراء».. والأغرب أنه لا «محافظ المنيا أو مدير الأمن أو رئيس المباحث»، قد تحرك لوقف هذه المهزلة فوراً، وربما لم يسمع بها باعتبار أن قرية «الفرن» تقع فى قارة «آسيا» وليست فى «المنيا» التى يتولى مسئولية إدارتها!

فى مواجهة تبريرات «أشاوس الداخلية» الذين أقدموا على فعلتهم هذه، قال «الأنبا مكاريوس» الأسقف العام بالمنيا «إن مسلمى القرية لم يسبق لهم أن اعترضوا فى أى وقت على صلاة إخوانهم الأقباط فى أى مكان بل إن جميع الأهالى تجمعهم علاقات ود وعشرة وجيرة طيبة عكس ما أشيع بأن هناك اعتراضاً على صلوات الأقباط بالقرية»، ما أقدم عليه قيادات الشرطة بالمنيا يندرج تحت ما كان يقصده الراحل السادات بـ«الغباء السياسى»، إذ إن البعض منا «بغبائه» يشعل «أزمة» دون داع أو مبرر لنشكو بعدها من أننا نواجه مؤامرات خارجية لإغراقنا فى الفتنة الطائفية! إذ كان لا بد أن تنفجر تلك الفضيحة‏ فى المنيا..‏ لنكتشف أى واقع نعيشه‏..‏ وأى تفكير يحكم تصرفات من يُفترض فيهم تقدير أى خطوة يقدمون عليها.. وإلى أى مدى وصل إليه تسيب البعض منا إلى درجة تدفع بالمجتمع جميعه إلى الانتحار ذاتياً‏.. ولم لا؟ فنحن اعتدنا ذلك بدرجة بات معها الأمر وكأنه جزء من ثقافتنا أو بمعنى آخر أحد مفردات موروثاتنا الثقافية «نتسبب فى إحداث كارثة.. ونسارع ونلقى اللوم على المؤامرات الخارجية»!!

خطورة ما جرى فى المنيا على هامش وطن -دام نحو 1500 عام حتى الآن محتضناً من يدعو الله سبحانه وتعالى وهو يلملم سجادة الصلاة بعد أن سجد لله فى صلاته ومن يرسم صليباً بيمناه على صدره ويشعل شمعة أمام تمثال السيدة البتول- كافية تماماً لأن يدفع كل من يعشق تراب هذا الوطن لأن يطالب بضرورة إخضاع كل من أقدم على هذه الخطوة للتحقيق الفورى أو المحاكمة.. فثقافة «شرا الدماغ» وإغماض العين عما جرى، إضافة إلى إدماننا الإقلال من خطورة أحداث صغيرة تصبح عملاقة إذا ما انتظمت فى إطار شكل معين‏ قد يدفعنا إلى مواجهة كارثة لا قدر الله سبحانه وتعالى!! إذ إننا نتنفس الصعداء دوماً عندما نتوهم أن ما حدث لا يمثل أى خطورة دون أن ندرك أن ذلك هو ما يمكن تسميته بـ«إدمان خداع النفس» وهو إحساس يريحنا بمجرد أن «تخبو نيران» أى أزمة نمر بها، متجاهلين أنها ستظل مشتعلة تحت الرماد،‏ لكننا اعتدنا أن نقنع أنفسنا دائماً بأنه لم يكن هناك أى خطر فى أى يوم من الأيام دون أن نجهد أنفسنا فى مواجهة أى مشكلة بكل الوضوح والشفافية!

حادث قرية «الفرن» يمثل تجسيداً لواقع أصبح أكثر مرارة لملايين المصريين الذين عاشوا معاً عبر عشرات المئات من السنوات.. أخوة وحدهم أذان المسجد وأجراس الكنيسة.. تقاسموا الحلم.. تحملوا الانكسارات.. انتشوا بالانتصارات.. لا نفتش فى صدور بعضنا أو نبحث عن خانة الديانة فى البطاقة، ومع كل هذا فقد نجح البعض فى إعادة فرزنا من جديد على أساس طائفى.. بينما اكتفت المؤسسات الدينية بـ«سيناريو ساذج» لتأكيد ما يسميه البعض الوحدة الوطنية تأتى نتائجها دائماً بالسلب‏.. ‏ويتعمد آخرون استخدام مصطلحات: «عنصرى الأمة‏.. الوحدة الوطنية» كما لو كنا فريقين أو طرفين ولسنا شعباً واحداً.. ولكننا للأسف أصبحنا نجيد التفرقة‏‏!

القضية لا تستلزم أى تدخل أمنى أو قانونى سوى فى محاسبة «المخطئ» وليس لفرض حماية للأشقاء المسيحيين، إذ إن هذه الحماية ستكون مؤقتة مهما طالت.. بل إن ما يحدث يستلزم «ثورة» فى تصحيح المفاهيم الخاطئة وتجديد الخطاب الدينى الذى يبدو أنه أصبح الشقيق الرابع لـ«العنقاء والغول والخل الوفى».. ووقتها فقط سنعود إلى ما كنا عليه عنصراً واحداً.. مصريين نتقاسم الوطن.. وسنعيد تبادل جملة «كل سنة وأنت طيب» سواء فى رمضان أو فى عيد القيامة المجيد.. ولك يا مصر السلامة..!‏
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف