الأهرام
د. هالة مصطفى
أزمة ترامب
كشف حادث مدينة شارلوتسفيل بولاية فيرجينيا, الأمريكية, الذى وقع الأسبوع الماضى, عمق الأزمة الداخلية التى يعانى منها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، أو بالأحرى أزمته الرئاسية والتى بدأت تقريبا منذ الأسابيع الأولى على توليه مقاليد السلطة.

الحادث باختصار تمثل فى تنظيم مسيرة حاشدة من المؤيدين للجماعات العنصرية البيضاء من أنصاراليمين المتطرف (النازيون الجدد وكوكلكس كلان) احتجاجا على إزالة تمثال الجنرال روبرت لى أحد أهم القادة العسكريين فى الحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865) المعروف باتجاهه العنصرى وتأييده العبودية, واشتباكهم على الجهة المقابلة بمتظاهرين مناهضين للتمييز العرقى من ذوى الاتجاهات اليسارية والليبرالية, فى مواجهة اتسمت بالعنف بعد عملية دهس بسيارة قام بها أحد المتطرفين اليمينيين أسفرت عن قتلى وجرحى بالعشرات.

أى قارئ لتاريخ أمريكا الحديث فى مكافحة العنصرية سيعرف مدى حساسية هذه القضية وخطورتها, وأن هذا الحادث لن يكون سوى بداية لصراع مجتمعى أشمل, فمنذ أحداث «ديترويت» الشهيرة أكبر مدن ولاية ميتشجان فى 1967 وما تلاها من أعمال عنف امتدت لمئات المدن وعشرات الولايات, وهذه القضية سبب رئيسي فى انقسام المجتمع الأمريكى, بل وكانت موضوعا لفيلم سينمائى للمخرجة «كاثرين بيجلو» عُرض منذ أيام حاملا اسم «المدينة» تعبيرا عن الرفض المطلق للممارسات العنصرية, ولكن «ديترويت» لم تكن الأخيرة, فبعدها بعام اغتيل القس مارتن لوثر كينج رائد النضال من أجل الحقوق المدنية للأمريكيين من أصول إفريقية, وطوال العقود الماضية وحتى سنوات الألفية الحالية استمرت مثل هذه الحوادث بصورة متقطعة, وإن سيظل لحادث فيرجينيا خصوصيته لكونه وقع هذه المرة ليس بين الشرطة والمواطنين السود كما كان يحدث فى الماضى, ولكن بين شرائح مختلفة من المجتمع, والأهم من ذلك أنه وقع فى ظل وجود رئيس أمريكى ينتمى لذات التيارات اليمينية ويرفع شعاراتها, وهى سابقة لم تشهدها الولايات المتحدة من قبل.

لذلك لم يكن غريبا أن تتوالى ردود الفعل الغاضبة من معظم الدوائر الأمريكية على تصريحات ترامب, التى ألقى فيها باللوم على الجانبين تعليقا على الحادث, لم تقتصر على وسائل الاعلام والمثقفين والأكاديميين والمنظمات الحقوقية وإنما على الحزبين الكبيرين الديمقراطى (المعارض)، والجمهورى (الذى جاء الرئيس من بين صفوفه) أى دوائر الحكم, وهو ما دعا البيت الأبيض لاستدراك الأمر بإصدار بيان آخر بلهجة أكثر حسما.

ولنفس السبب تلاحقت استقالات مستشارى الرئيس (ست استقالات أغلبها فور الحادث مباشرة) فى واحدة من أهم اللجان الاستشارية الاقتصادية، شملت كبار رجال الأعمال ورؤساء الشركات الصناعية الكبرى, اعتراضا على حالة الاستقطاب السياسى وتأثيرها السلبى على استقرار المجتمع، فضلا عن انتهاك المثل العليا فى المساواة التى قام عليها المجتمع الأمريكى, ما أدى إلى فض اللجنة, ثم جاءت استقالة أو إقالة ــ كما وصفتها النيويورك تايمز ــ ستيف بانون أحد كبار مستشارى ترامب السياسيين ذى التوجه اليمينى كجزء من احتواء الأزمة.

الواقع أن ظاهرة الاستقالات والإقالات باتت سمة رئيسية ملازمة لإدارة ترامب بغض النظر عن حادث فيرجينيا, فقبله وفى غضون فترة قصيرة تمت استقالة أوإقالة المتحدث باسم البيت الأبيض (أنتونى سكاراموتشى) ومدير مكتب التحقيقات الفيدرالى (جيمس كومى) ومستشار الرئيس للأمن القومى (مايكل فلين) وكبير موظفى البيت الأبيض (رينس بريبوس) وغيرهم, ما يعكس خلافات الرئيس المستمرة مع فريقه ومساعديه بصورة تزيد على المعتاد أو المتعارف عليه, ربما بحكم طبيعته الشخصية التى يغلب عليها الانفعال اللحظى ما يجعله يتجاوز بسهولة السياسات المعتمدة رسميا.

وليست هذه مظاهر الأزمة الداخلية الوحيدة, فأغلب قراراته الرئاسية تصطدم بمؤسسات الدولة مثلما حدث بشأن منع مواطنى سبع دول إسلامية من دخول أراضى بلاده, والتى أوقفت تنفيذه المحكمة الفيدرالية بنيويورك واستجاب لها جهاز الأمن الداخلى قبل أن تلحق بها محاكم ولايات أخرى. إضافة إلى ذلك, يخضع ترامب حاليا لتحقيقات قانونية بشأن علاقته وفريق حملته الانتخابية عندما كان مرشحا للرئاسة بروسيا, وتم أخيرا تشكيل لجنة «محلفين عليا» للفصل فى مسألة توجيه تهمة جنائية إليه بهذا الخصوص إلى جانب الكشف عن حساباته البنكية الشخصية للتأكد من عدم تلقيه أموالا من موسكو قبل الانتخابات, بل أكثر من ذلك وُجهت إليه اتهامات فى مايو الماضى, وفق ما نشرته الواشنطن بوست, بإفشاء معلومات سرية لوكالة المخابرات المركزيه إلى وزير خارجية دولة تعُد فى صراع مع الولايات المتحدة فى إشارة أيضا إلى روسيا.

بعبارة واحدة, حادث فيرجينيا ليس سوى فصل جديد من فصول أزمات ترامب فى الرئاسة وصدامه مع مؤسسات الدولة (وزارة الخارجية والعدل والقضاء والمخابرات والمباحث الفيدرالية) وطبيعة المجتمع الأمريكى والثقافة العامة السائدة, لدرجة أن تحدث الأمريكيون عن إمكانية عزله أو استقالته من منصبه, وهذه ليست بالأمور الهينة كون مبدأ عزل الرؤساء لا يُطرح إلا فى أضيق الحدود ولا يتم الاقتراب منه بهذه السرعة أى قبل مضى عام على شغل المنصب كما هى حالة ترامب, وربما أشهر واقعتين معاصرتين كانتا مع بيل كلينتون (1998) على خلفية اتهامه بالكذب فى علاقته بالمتدربة بالبيت الأبيض (مونيكا لوينسكى) إلى أن قدم اعتذارا علنيا, وريتشارد نيكسون (1974) بسبب فضيحة ووترجيت وإن بادر بتقديم استقالته مضطرا.

لا شك أن هذه الأزمة الداخلية تنعكس على مجمل الأداء السياسى للإدارة الحالية خاصة فى مجال السياسة الخارجية, ففى كل الملفات كان التضارب فى التصريحات والتراجع فى المواقف هو العنوان الرئيسى, فى الأزمة السورية والإيرانية والقطرية، وكذلك بالنسبة لروسيا, وأوروبا والعلاقة مع الناتو وفى ملف كوريا الشمالية وحتى المكسيك والجدار العازل الذى أُعلن عن بنائه فى المنطقة الحدودية, وكلها مجرد أمثلة.

الرئيس دونالد ترامب لم يتغير كثيرا عن المرشح دونالد ترامب, قدم نفسه على أنه المتمرد على كل الأطرالمؤسسية التقليدية سواء التنفيذية أو الحزبية، واعتمد ــ ومازال ــ وسائل التواصل الاجتماعى بديلا عن الإعلام, تغريداته على تويتر تسبق سياساته المدروسة مع باقى مؤسسات صناعة القرار, يشعر بأنه مستقل رغم حزبيته الطويلة ولا يدين بنجاحه إلا لأنصاره وأغلبهم من الاتجاه اليمينى أو غير الحزبى, فهل سيكسب رهانه الذى اختاره أم أن قوة المؤسسات هى التى ستفرض نفسها عليه؟ هذا فقط هو السؤال.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف