الأهرام
خيرى منصور
أمريكا ونظرية الاحتواء !
احيانا يتقطر كتاب حتى لو كان من الف صفحة فى عبارة واحدة، وهذا بالفعل ما أحسست به فور الانتهاء من قراءة كتاب ايان شابيرو استاذ العلوم السياسية فى جامعة يال، أما العبارة التى أعنيها فهى ما قاله المؤلف وهو من أجل ألا تتورط أمريكا فى عراق آخر .

هكذا يعترف شابيرو بأن امريكا بوش الابن وادارته ومستشاريه قد ورّطوا الولايات المتحدة فى مستنقع آسيوى آخر بعد التورط الشهير فى فيتنام، وما إن يرد مصطلح الاحتواء فى أى مقاربة سياسية حتى ينصرف ذهن القارئ الى ما سمى بالاحتواء المزدوج الذى حاولته امريكا مع كل من ايران والعراق، وكان هنرى كيسنجر قد مهد لذلك فى مذكراته حين روى قصة احتواء مزدوج آخر للنظام العراقى والاكراد، ومارس العزف على الأوكارديون بحيث اعتصر الطرفين معا، فالعراق وافق على فك الاشتباك بعد حرب اكتوبر 1973 نتيجة ذلك العزف الضاغط على نظامه، وبالمقابل تم اعتصار الاكراد ايضا، لكن مفهوم الاحتواء الذى يعنيه ايان شابيرو مختلف الى حدّ ما لأنه أشمل ويتصل مباشرة بعمق الاستراتيجية الامريكية ويتمدد أيضا الى ما يسمى الميتااستراتيجية او ما بعد الاستراتيجية .

رائد استراتيجية الاحتواء حسب اعتراف شابيرو هو المفكر والسياسى الأمريكى جورج كينان الذى قدّم نموذجا ميدانيا ناجحا فى تجريب نظرية الاحتواء فى بداية حكومة الرئيس هارى ترومان، واستطاع وقف المدّ الشيوعى وانتشاره فى العالم.

أما النموذج المضاد لتلك التجربة فى عهد الرئيس ترومان فهو ما تورط به جورج بوش الابن بعد أحداث الحادى عشر من أيلول عام 2001، وان كان الارهاب لم يبدأ فى ذلك العام فقط، وكان قد استهدف امريكا فى محاولة فشلت عام 1993 وهى نسف مركز التجارة العالمى فى نيويورك، وتم نسف سفارتين امريكيتين فى نيروبى ودار السلام عام 1998، مما ادى الى سقوط اكثر من مائتين وخمسين قتيلا، وبعد ذلك بعامين هوجمت السفينة كول فى اليمن وسقط سبعة عشر قتيلا، لكن الولايات المتحدة فى العقد الأخير من القرن العشرين كانت منشغلة بفضائح كلينتون ومونيكا، ولو عدنا الى ما أعقب ذلك فى بدايات عهد بوش الابن وفى حملاته الانتخابية لوجدنا أن معظم اطروحاته تعرضت لانقلاب جذرى عشية ذلك الزلزال الايلولي، بحيث لم يعد للسياسة الداخلية الاولوية ولم تعد نظرية تفادى وتجنب التورط العسكرى خارج الحدود الامريكية قابلة للصرف وانتهى الأمر الى ما يعرفه العالم كله عن الفشل الذريع لادارة بوش الابن فى افغانستان والعراق، وربما كان ذلك هو ما يفسر عبارة شابيرو التى قلت إنها تختصر الكتاب كله، وهى من أجل عدم التورط فى عراق آخر !

لكن هل يمكن لتطبيق نظرية الاحتواء ان تكون بديلا للحرب على الارهاب بشكل ميدانى ومباشر ؟ هذا بالضبط ما يقوله ايان شابيرو، فالاحتواء يحقق قدرا من الديمقراطية فى العالم اجمع، ويمكن اعتماده كاسلوب فى التعامل مع دول تصنّف على انها معادية او مارقة مثل ايران وكوريا الشمالية، رغم تطويرهما للاسلحة النووية . ان فشل بوش الابن لا يحتاج الى الكثير من الأدلة، بدءا من فشل استخباراته او تلفيقها لخزانة اسلحة الدمار الشامل فى العراق، وليس انتهاء بالفضيحة التى تورط بها وزير دفاعه كولن باول وانتهت باستقالته واعترافه بالخديعة !!

وحين اصدر شابيرو كتابه عن الاحتواء او ما وراء الحرب على الارهاب لم تكن المفاجأة الاخيرة قد هزت الولايات المتحدة، وهى وصول ترامب الى البيت الابيض بكل ما لديه من حمولة تعج بالمتناقضات، فهو الأقل تأهيلا حتى من جورج بوش الابن فى القدرة على تكرار تجربة هارى ترومان فى الاحتواء، خصوصا بعد ان ظهر التصدع فى القرارات الامريكية ، بين البيت الابيض والبنتاجون او ما يسمى البيروقراطية الامريكية العميقة، ولعل من ابرز ما يطرحه شابيرو فى كتابه هو ما فشل فيه الجمهوريون لم ينجح فيه الديمقراطيون الذين كما يقول بالحرف الواحد حولتهم صدمة الحادى عشر من ايلول الى حمير اعمتها الاضواء.

إن غياب نظرية الاحتواء، او عدم توافر قادة قادرين على ممارستها من طراز ترومان ادى الى انصهار الشيوعية مع القومية المعادية لامريكا خلال الحرب الباردة، واتضح ان هذا الانصهار كان له دور بالغ النفوذ فى الهند الصينية وافريقيا وامريكا اللاتينية، وقد يتكرر ذلك مع الانصهار بين الاسلام والقوميات المعادية لامريكا كما حدث فى ردود الافعال الواسعة على احتلال العراق .

ان الأعوام العشرة الاولى على الأقل من هذا القرن بحاجة الى إعادة قراءة وبالتحديد ما بين السطور، فالاخطاء البوشية تحولت بفضل الغلاة من اليمين المتطرف الى خطايا، وتحققت توقعات بريجنسكى مستشار الامن القومى الاسبق، حول إضاعة ثلاثة رؤساء امريكيين لفرص ذهبية، اضافة الى الخلل الناجم عن تزاوج القوة والعدالة!!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف