ﺧﺮﺝ ﺃﺣﺪ ﺍﻟﻤﻠﻮﻙ في نزهة، ﻓﺮﺃﻯ ﻓﻼحا ﻳﺤﺮﺙ أرضه، تبدو عليه علامات السعادة والرضا، ﻓﺴﺄﻟﻪ ﺍﻟﻤﻠﻚ: أﺭﺍﻙ ﻣﺴﺮﻭﺭﺍً ﺑﻌﻤﻠﻚ في ﺃﺭﺿﻚ، ﻓﻘﺎﻝ ﺍﻟﻔﻼﺡ: لا ﻳﺎ ﺳﻴﺪي هي ليست أرضي، وﺃﻋﻤﻞ ﻓﻴﻬﺎ مقابل أجرة ﺃﺭﺑﻌﺔ ﻗﺮﻭﺵ في اليوم، رد ﺍﻟﻤﻠﻚ: ﻭﻫﻞ ﺗﻜﻔﻴﻚ؟ ﻗﺎﻝ ﺍﻟﻔﻼﺡ: ﻧﻌﻢ ﻭﺗﺰﻳﺪ، فقرش ﺃﺻﺮﻓﻪ ﻋﻠﻰ عيشي، ﻭﻗﺮﺵ ﺃﺳﺪﺩ ﺑﻪ ﺩﻳني، ﻭﻗﺮﺵ ﺍﺳﻠﻔﻪ ﻟﻐﻴﺮي، ﻭﻗﺮﺵ ﺃﻧﻔﻘﻪ في ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻟﻠﻪ. ﻗﺎﻝ ﺍﻟﻤﻠﻚ: أوضح فهذا ﻟﻐﺰ ﻻ ﺃﻓﻬﻤﻪ، ﻗﺎﻝ ﺍﻟﻔﻼﺡ: ﺃﻣﺎ ﺍﻟﻘﺮﺵ ﺍﻟﺬي ﺃﺻﺮﻓﻪ ﻋﻠﻰ عيشي ﻓﻬﻮ ﻣﺎ ﺃﻋﻴﺶ ﻣﻨﻪ ﺃﻧﺎ ﻭﺯﻭﺟتي، ﻭﺃﻣﺎ ﺍﻟﻘﺮﺵ ﺍﻟﺬي ﺃﺳﺪﺩ ﺑﻪ ﺩﻳني ﻓﻬﻮ ﻣﺎ ﺃﻧﻔﻘﻪ ﻋﻠﻰ ﺃبي ﻭﺃمي، وﺍﻟﻘﺮﺵ ﺍﻟﺬي أﺳﻠﻔﻪ ﻟﻐﻴﺮي ﻓﻬﻮ ﻣﺎ ﺃﻧﻔﻘﻪ ﻋﻠﻰ ﺃﻭﻻﺩي لأﺭﺑﻴﻬﻢ ﻭﺃﻃﻌﻤﻬﻢ ﻭﺃﻛﺴﻮﻫﻢ ﺣﺘﻰ ﺇﺫﺍ ﻛﺒﺮﻭﺍ ﻳﺮﺩﻭﻥ إليّ ﺍﻟﺪﻳﻦ، ﺃﻣﺎ ﺍﻟﻘﺮﺵ ﺍﻟﺬي ﺃﻧﻔﻘﻪ في ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻟﻠﻪ ﻓﻬﻮ ﻣﺎ ﺃﻧﻔﻘﻪ ﻋﻠﻰ ﺃﺧﺘﻴﻦ ﻣﺮﻳﻀﺘﻴﻦ. اﻧﺒﻬﺮ ﺍﻟﻤﻠﻚ ﻣﻦ ﺭﺩﻭﺩ الفلاح ﺍﻟﺒﺴﻴﻂ فاﺷﺘﺮﻯ ﺍﻷﺭﺽ ﻭﻭﻫبها له. وهنا ﺒﺎﻉ ﺍﻟﻔﻼﺡ الأرض، ﻭأﺧﺬ ﺍﻟﻔﻠﻮﺱ ﻭﺗﺰﻭج أوكرانية وطلق امرأته، وأودع أمه وأباه دار المسنين وطرد أولاده للشارع، وحالياً عايش بألمانيا.
كانت هذه الحكاية ضمن رسائل تلقيتها علي »الواتس والماسنجر».
الغريب أن واكبتها رسالة أخري، وبنفس الكثافة، تحكي علي لسان مهاجر مصري يقول: كنت مسافرا بسيارتي من أمريكا إلي كندا حيث مكان إقامتي وعلي الحدود أعطيت جواز سفري للموظفة المسئولة ففتحته وعرفت أنني من أصل مصري، سألتني أخبار مصر؟ ومنذ متي وأنت تعيش في كندا؟ أجبت: أنهيت لتوي السنة العاشرة، وتوالت الأسئلة: متي زرت مصر آخر مرة؟
منذ ثلاثة أعوام، من تحب أكثر مصر أم كندا؟ فقلت: الفرق عندي بين مصر وكندا كالفرق بين الأم والزوجة، الزوجة اختارها وأرغب بجمالها لكن لا يمكن أن تنسيني أمي، الأم لا أختارها ولكن أجد نفسي لا أرتاح إلا في أحضانها. أعجبت الكندية بهذا الإنسان الرائع وتزوجته وعاشوا في مصر، والآن هي تبيع مناديل كلينكس في ميدان رمسيس، وتدعي عليه وعلي أمه وأم الساعة اللي جت فيها علي مصر.
وهكذا تكررت الرسالة عشرات ومئات المرات وبتنويعات مختلفة ملحة، وعندها شكلت في تقديري ظاهرة لابد من تفكيك شفرتها وحل رموزها، وهي حالة لا يمكن قراءتها إلا في ضوء علم الاجتماع السياسي وعلم النفس الاجتماعي، إذ تشي الحكايات بأننا أمام ضمير جمعي أحبطه واقعه وظروف مجتمعه وأحوال بلده، فوجد ضالته فيما يعبر عن صدمته وحيرته وانكساره. وهي حالة من إنكار للواقع الذي يراه مصطنعاً ومزيفاً، لا يعبر عنه، فراح يسخر من ذاته وما آلت إليه أحواله، ويتندر علي مجتمعه وبلده ومواطنيه ومفارقات تصرفاتهم وعجائب أحوالهم.
ففي الحكاية الأولي لم يكن الفلاح سعيداً راضياً، بل كان مقهوراً علي هذا الرضا الشكلي والسعادة المتوهمة في خيال الملك. وعندما جاءته الفرصة تنكر لكل مفردات واقعة وتصرف علي نحو مخالف لما يعتقده الملك. أما في الحكاية الثانية، فكان صاحبنا »حلو طول ماهو في كندا» لكنه تحول شخصاً آخر بعد عودته لمصر التي انقلبت فيها أحواله وزوجته إلي النقيض والضد. وهنا إشارة إلي أنه لم يكن مجبولاً علي الفشل والحياة البائسة، إنما هي الظروف وطبيعة الأحوال في البلد الذي يقيم فيه، وهي في كل الأحوال حالة منذرة تستوجب التحسب والدراسة.
المفارقة هنا أن الرسالة الثالثة المتداولة بكثافة كاشفة ومؤلمة، إذ تحكي عن مليونير أمريكي ذهب يطلب من أحد بنوك نيويورك قرضاً مقداره خمسة آلاف دولار، وأودع ضماناً للبنك سيارته الرولزرويس بحجة أن ليس لديه الوقت لتقديم أوراق ومستندات. سلمهم مفتاح السيارة والأوراق الثبوتية علي ملكيتها وتنازله عنها للبنك حال عدم وفائه بالمبلغ المقترض. قام موظفو البنك بمراجعة أوراق السيارة، وأودعوها جراج البنك وهم يضحكون ويعجبون لمن يضع سيارة تقدر قيمتها بربع مليون دولار ضمانا لمبلغ بسيط. بعد أسبوعين عاد رجل الأعمال من سفره، وتوجه إلي البنك وسلم مبلغ القرض مع فوائده بقيمة 15.41 دولار. سأله مدير الإتمان بالبنك: سيدي
نحن سعداء جداً بتعاملك معنا، ولكننا في حيرة، إذ بحثنا في معاملاتك وحساباتك فوجدناك من أصحاب الملايين، فلماذا تقترض مبلغاً تافها؟ والأغرب أن تضع مقابله سيارة فارهة باهظة الثمن. رد الرجل مبتسماً: سيدي وهل هناك غير جراج البنك مكان آخر في نيويورك الواسعة استطيع إيقاف سيارتي الرولزرويس فيه لمدة أسبوعين بأجرة 15.41 دولار دون أن أعود لأجدها مسروقة؟!
إذا وضعت الرسالتين السابقتين في مقابل هذه الحكاية، فستجد التفسير الموجع، وهو تجلي مركب النقص الذي أصاب الشخصية المصرية وحيرتها وعدم ثقتها في نفسها ومجتمعها، مقابل تفوق الآخر وتميزه وذكائه. وهنا مكمن الخطر، وهنا أيضاً بضدها تعرف الأشياء.