الدستور
الهام سيف الدولة
ملْحَمَةْ محفوظ عبدالرحمن لن تغيب
فى مفترق الطرق.. تقف حائرًا مشدوهًا، حين يختطف الموت وهو حق واحدًا من أساطين الأدب الذين شكَّلوا بإبداعاتهم جمال الذائقة المصرية فى عصرنا الحديث، ونابغة من نوابغ هذا الزمن العصيب، الذى قارب بئر جماله على النفاد، وعزاؤنا أن مصرنا «ولاَّدة» ولا ينضب معينها أبدًا، ولكن تصبح المسألة مسألة وقت لتفرز من بين جموعها رائدًا جديدًا، كهذا الأديب العملاق الذى رحل عن عالمنا، وهو الروائى القاص السينمائى المسرحى السيناريست الاشتراكى الناصرى الوطنى الإنسان محفوظ عبدالرحمن، ولهذا تكون الحيرة والدهشة والسؤال للنفس وللقلم الحائر بين يديك وأمامك الورقة البيضاء: من أين تبدأ الحديث عن هذا الأديب الأريب؟!

هذا الفتى الذى تخرج فى جامعة القاهرة مع إرهاصات نجاحات التجربة الناصرية، حاملًا بين يديه ليسانس الآداب ١٩٦٠ ليعمل بمؤسسة دار الهلال، وتغلبه الطبيعة المتمردة كفنان أصيل، ليذهب إلى حيث المنهل الذى يهدف إليه بوزارة الثقافة ليعمل فى دار الوثائق التاريخية، وهو ما أتاح له التعايش والاطلاع على الكثير من تاريخ عقل مصر وتراثها الخالد.. وليشارك كسكرتير تحرير فى إصدار ثلاث مجلات شهيرة: مجلة السينما، الفنون، المسرح والسينما. فكان من الطبيعى فى ظل هذا التعايش القلبى والروحى وسط قمم صاحبة الجلالة الصحافة، أن يقوم بإصدار مجموعته القصصية الأولى ١٩٦٧ بعنوان «البحث عن المجهول»، ولعل هذا العنوان فى بدايات حياته الأدبية، كان تعبيرًا حقيقيًا يُترجم تطلعاته فى البحث عن نفسه وذاته الفنية وسط طوفان القاهرة، الذى يعج بالفوران الثورى الحقيقى آنذاك، ويحيا بالحس الوطنى الفيَّاض مع بدايات «التليفزيون المصرى» ليقدم أول أعماله لهذا الصرح العريق سهرة بعنوان «ليس غدًا».

وهذا العنوان أيضًا دال على أمل المبدع فى اقتناص اللحظة الآنية وليس غدًا! وتتوالى مسلسلاته التليفزيونية إلى جانب مشاركاته فى العمل مع العديد من الصحف والمجلات داخل مصر وخارجها، ولكن لم يرض كل هذا الانتشار طموحاته وروحه المتمردة على كل ما يعرقل حريته فى الإبداع.. فيقدم استقالته من وزارة الثقافة، كى يتفرغ للكتابة بكل ما يحمله من زخم توجهه الاشتراكى الناصرى، وحماسه للتجربة الناصرية الفذة فى هذا الزمان، فيقدم للدراما التليفزيونية أكثر من عشرين عملًا، أبرزها «أم كلثوم»، «بوابة الحلوانى»، «ليلة مصرع المتنبى»، و«سليمان الحلبى». وقدم للسينما عددًا من الأعمال، أبرزها «ناصر ٥٦»، «حليم»، و«القادسية». ليقتنص عن جدارة عددًا كبيرًا من الجوائز من داخل مصر وخارجها، أبرزها الجائزة الذهبية من مهرجان الإذاعة والتليفزيون عن مسلسل كوكب الشرق السيدة «أم كلثوم».

ورغم كل هذه النجاحات المتتالية على الصعيد السينمائى والمسرحى والتليفزيونى، فإنه ظل على نقائه وصفائه، فكان فى شخصه وشخصيته خير معبِّر عن طبيعة المثقف الريفى البسيط، الذى لم يتنصل من جذوره وطباعه وجيناته المصرية الأصيلة، الملتصقة بخضرة الأرض ونيلها الجارى، حتى لتكاد تشعر من خلال إبداعاته أنه يغمس قلمه فى ماء النيل الخصيب ودماء الشهداء، ليكتب الملاحم الصادقة عن الوطن وعظمته وبتاريخه الأثيل عبر الأحقاب الزمنية المترامية الأطراف، والمثقف الذى يدرك طبيعة الدور الذى يجب أن يلعبه فى خدمة مجتمعه وأمته العربية من أقصاها لأقصاها، ناكرًا ذاته بلا صراع أجوف على المادة والمناصب، وليرحل عن عالمنا ما نعُده آخر كتاب الدراما التليفزيونية الجادة، ولا تملك حتى وإن اختلفت مع آرائه السياسية.

إلا أن تحترم رؤيته ورؤاه على الصعيد الإنسانى والإبداع الفنى، فبرغم اختلاف البعض عما قدمه لشخصية الزعيم فى «ناصر٥٦» عن سويعات ما قبل تأميم قناة السويس واستعادة الشريان المصرى الحساس من سيطرة الأجانب والذى جسَّده بكل الاقتدار الفنان الراحل أحمد زكى فإنه استطاع أن يقوم بتحييدهم باستعراضه النابض لتلك السويعات الفارقة، بعيدًا عن أقلام المرجفين الذين يناصبون العداء للتجربة الناصرية، خاصة فى مرحلة التحول الاشتراكى، الذى أغضب سدنة الإقطاع وذيولهم المستفيدة من سقط الفتات من بين أيديهم! وينجح الكاتب العملاق محفوظ عبدالرحمن، فى نيل كل المحبة والاحترام من مناوئيه، وليذهب إلى أحضان السموات مشفوعًا بدعوات الخلود لأعمال هذا الركن الفاعل فى الدراما المصرية الحقيقية، وتختفى من الساحة ركيزة أساسية من ركائز عمالقة التجربة الناصرية فى تاريخنا المعاصر.

عودة إلى مفترق الطرق.. والسؤال الضرورى والمُلحْ: هل سنكتفى بمقالات التأبين على أعمدة الصحف والمجلات؟ أم سنرى تكريمًا حقيقيًا ــ من الدولة ــ يليق بهذا الأديب الذى رحل فى هدوء.. تحت سياط الضربة الدماغية التى أطاحت به من فوق عرش الأدب الصادق الرصين؟ المبدعون لا يرحلون بل يغيرون عناوينهم، وسيبقى «محفوظ» بيننا ملحمة.. لن تغيب!».
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف