التحرير
نبيل عبد الفتاح
خبراء السياسة: مهنة في خطر
هل مهنة البحث في العلوم الاجتماعية والسياسية والقانونية في خطر؟ وما أسباب هذا الخطر ومؤشراته؟
أتحدث هنا عن المهنة وعن الجماعات العلمية في عديد من التخصصات، في الاجتماع والأنثربولوجيا، والعلوم السياسية، والقانونية، في مصر والبلدان العربية، ومن ثم ليس موضوعنا، وضعية العلوم الاجتماعية ومناهج مقارباتها للظواهر، والأزمات، التي تمر بها المجتمعات المعاصرة في عالمنا، وذلك لعديد من الأسباب نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
1- الأوضاع المضطربة، والقلقة والمتوترة لعمليات التحول الكبرى التي تتشكل في مخاضات صعبة في عالمنا ما بعد بعد الحديث، وما بعد العولمة، وهي حالات ما بعدية تتسم بالصعوبة والتعقيد، والآلام الكبرى التي يعانيها الإنسان المعاصر، في سعيه للتكيف الإدراكي، والمعرفي مع التغير الذي سيحدث في طبيعته من الإنسان الطبيعي إلى الإنسان الرقمي، بكل ما ينطوي عليه من مصاعب جمة، وزلزلة في وجوده ذاته جراء هذه العمليات بالغة الصعوبة وغير المألوفة، والتي لم يشهدها في أثناء الانتقال من المجتمع الزراعي إلى الصناعي، ومن الثورات الصناعية الأولى والثانية والثالثة وما بعدها، على الرغم من صعوبات التكيف في كل هذه المراحل، وما خلفته من باثولوجيا اجتماعية – العلل والاعتلالات الاجتماعية والمشكلات الثقافية وفي أنظمة القيم والأخلاقيات ونمط الحياة- إلا أن الحالة المابعدية الراهنة، هي الأكثر صعوبة وجراح والآلام، مبرحة وقاسية، وتراجيدية، وكينونية، عن كل مراحل التطور الإنساني.
2- تتشكل المنظومات والآلات النظرية والمنهجية في العلوم الاجتماعية في ضوء دراسة الظواهر الاجتماعية والسياسية والقانونية، وتتبلور بالدراسات البحثية عبر تطورها، ونقدها، وتنقيحها، وتعديلها أو أطراحها جانبًا، وتغدو جزءًا من تاريخ هذا الفرع من فروع المعرفة أو ذاك! من هنا التغير الاجتماعي أو التقني أو في الطبيعة غالبًا ما يتم مقاربته وتحليله في ضوء أطر نظرية «سابقة التجهيز» وتم ابتكارها وإنتاجها وصياغتها وتطبيقها على ظواهر وأزمات ومشكلات تجسدت فعلاً في الواقع الموضوعي. من ثم لا تعد كافية لمعالجة ظواهر ومشكلات جديدة أكثر تعقيدًا في الحياة الإنسانية. من هنا تظهر الفجوات بين الأطر المعرفية السائدة في العلوم الاجتماعية، وبين الظواهر الجديدة المعقدة. هذه الفجوات تبدو الآن في المراحل المابعدية بعضها يمكن توظيفه، لكنها تحتاج إلى تعديلات كبرى، وتجديدات نظرية هيكلية لإمكانية فهم ما يحدث داخلنا وحولنا وبنا!
3- المراحل المابعدية الراهنة في تحولاتها الكبرى لا تزال تحملُ في أعطافها بعضًا من الأبنية الاجتماعية والأفكار السابقة، وتداخلها مع الظواهر، والأبنية الجديدة التي تتشكل وتتغير وتتحول بسرعة، إلا أن الآلات النظرية والتحليلية والمفاهيمية تجد صعوبة في تحليل هذه التغيرات، وغالبًا ما نلجأ إلى "النظريات الجاهزة" لتفسير الجديد المتغير.
في ظل هذه الأوضاع المتغيرة، يحاول بعض الباحثين الثقاة التنظير المباشر للواقع الموضوعي المتحول، أو إعادة تكييف النظريات والمقاربات التحليلية لكي يمكنها التعامل مع الظواهر الجديدة المتغيرة. من هنا يبدو سمت السيولة المابعدية وعدم اليقين في عالمنا الهادر بالتغيرات الكبرى والتي تبدو هادئة وناعمة في مظهرها، إلا أنها زلزالية في عمقها وأثرها على الشرط الإنساني.

تبدو العلوم الاجتماعية، والفلسفة، والقانون في مأزق تاريخي، وهي تصارع بأدواتها الكلية لفهم واقع تتسع تغيراته الكبرى، في ظل تراجع السرديات الكبرى، وما خلفته من فراغات، وأزمات للمعنى.
ما يجري في عوالم العلوم الاجتماعية، يبدو بعيدًا عن حياتنا العلمية والبحثية إلا قليلاً، وباستثناءات محدودة لدى بعض الباحثين الثقاة والمبدعين. إلا أن العلوم الاجتماعية، والجماعات البحثية يعانون من أزمات كبرى يمكن رصدها فيما يلي:
1- فجوة معرفية بين تطورات العلوم الاجتماعية في مصر نظريًا وتطبيقيًا، وبين تطوراتها في الجامعات ومراكز البحث الأكاديمي الغربية وفي شمال العالم، وفي الهند واليابان والصين وآسيا الناهضة.
2- القيود السياسية والأمنية على إجراء البحوث الاجتماعية والسياسية والقانونية الميدانية، على نحو أدى إلى عدم تبلور تراكمات معرفية حول الخرائط الاجتماعية ومشاكلها وأزماتها وظواهرها، تساعد على تطور البحوث، وتكييف النظريات، وأعاق تطور القدرات والمهارات البحثية لدى أجيال متتالية داخل الجماعة البحثية في العلوم الاجتماعية، التي تآكلت قدراتها.
3- تراجع اهتمامات النخبة السياسية الحاكمة -في غالب الدول العربية ومصر- بالإنتاج البحثي في مجال العلوم الاجتماعية إلا قليلاً، ونزوع صناع القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي إلى البراجماتية، والحس العملي المفارق في غالب الأحيان للواقع الموضوعي، ولطبيعة المشكلات التي يتعامل معها، ولا تعدو نزعته العملية احتواء المشكلة، وتخفيض احتقاناتها، دون تعامل جذري مع أسبابها وتطوراتها! من ثم تفاقمت الفجوات بين النخبة السياسية وقراراتها، وبين الإنتاج البحثي للمؤسسات الرقمية، أو غير الحكومية، ومن ثم تراجع الطلب السياسي على المعرفة في مجال العلوم الاجتماعية.

4- في أعقاب الانتفاضات الجماهيرية الكبرى -في مصر- تراجعت نسبيًا بعض الجهات المانحة عن دعم مراكز البحوث الرسمية وغير الحكومية على نحو أثر سلبيًا على أنشطتها.
5- إغلاق عديد من المجلات الفكرية وبعض الصحف المرموقة مع غياب تمويلات عربية نفطية لها، ومن ثم توقف عديد من الباحثين والكتاب عن ممارسة العمل البحثي النظري، أو التطبيقي لغياب منافذ وقنوات للنشر.
6- ساهمت الفوضى الإعلامية التلفازية، وبرامجها السجالية في إعطاء صور سلبية عن هشاشة وضحالة البحث السياسي، والخبراء من خلال النماذج التي تقدمها لما يسمى بالخبراء في اللا خبرة! وعودة السياسة الإعلامية إلى مجال الترفيه، في ظل تراجع حريات الرأي والتعبير، لصالح الخطاب الغوغائي، مما أدى إلى تراجع الاهتمام بسماع أهل الخبرة الجادين.
7- إغلاق بعض مراكز البحث غير الحكومية، في المجال الحقوقي والدفاعي، وذلك كنتاج للضوابط والقيود الجديدة المفروضة على هذا النمط من المراكز.
8- تصفية بعض الجهات التمويلية العربية لبعض المراكز البحثية، أو نقص شديد في تمويل أنشطتها على نحو أدى إلى تقلص شديد في أعمالها وأنشطتها وخططها البحثية.
9- ضعف الطلب الاجتماعي – السياسي على البحث في مجال العلوم الاجتماعية، لأنه يطرح عديدًا من الأسئلة، والشكوك على عديد السياسات الاجتماعية وبرامجها، سواء في أولوياتها، أو في تطبيقاتها ونتائجها العملية، وفي مواجهتها للمشكلات، أو تحقيقها للأهداف المتغياه من ورائها.
10- انحدار كفاءة أجهزة الدولة وقدرات أجيال من قادتها، والعاملين بها على نحو غير مسبوق في تاريخ بيروقراطية الدولة المصرية، كنتاج لعمليات ترييف هذه الأجهزة، وشبكات العلاقات العائلية، والأسرية والمناطقية، والمحسوبية، ونمط من الزبائنية على نحو أثر على النزعة التحديثية الموروثة للدولة والبيروقراطية في مصر.
من ناحية أخرى، ضعف وغياب برامج إعادة التأهيل، وبناء القدرات داخل أجهزة الدولة، ولدى "النشطاء" سواء من الأجهزة الحكومية، أو من بعض المنظمات غير الحكومية حتى في المجال الحقوقي! من هنا نستطيع القول إن مهنة البحث السياسي والاجتماعي في خطر حقيقي لغياب الطلب السياسي والاجتماعي عليها، في ظل تدهور متسارع في كفاءة الجماعة العلمية – والاستثناءات محدودة للنبهاء وذوي المعرفة والخبرة والممارسة المستمرة من ثقاة الباحثين المرموقين – وفقدانها للجاذبية والمكانة، على نحو يجعلها تتراجع في ذهنية وإدراك بعض الأذكياء من شباب الباحثين وتجعلهم يبحثون عن أعمال أخرى أكثر جاذبية وتحقيقًا لطموحاتهم. إن مخاطر تراجع أهمية مراكز البحث السياسي والاجتماعي، تتمثل في تأثيرها السلبي على قدرات الدولة والنخبة السياسية الحاكمة، وجماعات المعارضة التي لا تهتم أساسًا بالبحث السياسي والاستراتيجي، وتعتمد على الثقافة الشفاهية والانطباعية، ومعارف قديمة أعدت لفهم الماضي لا الحاضر والمستقبل. لا سياسة دون فكر وبحث سياسي واجتماعي واستراتيجي، ولا عقل سياسي دون معرفة، ودون ذلك إبحار عشوائي في بحار ومحيطات متلاطمة، وفضاءات سديمية تؤدي إلى الانهيارات والغرق! اللهم قد بلغت اللهم فاشهد على نحب هؤلاء العرب وقبائلهم السياسية من العاربة والمستعربة، وحتى البائدة!!



تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف