جمال سلطان
نسائم صيف .. آباء وأبناء وأزمة الشهرة
في دنيا الثقافة والأدب والدين من النادر أن يخلف الولد أباه بذات وهجه وحضوره ومكانته وشهرته ، خاصة إذا كان الأب من رواد هذا الفن أو ذاك ، ويمكنك أن تجول بخاطرك في الرموز الكبيرة التي صنعت قوة مصر الناعمة فكريا وثقافيا وأدبيا ودينيا في نصف القرن العشرين الأول ، لن تجد للمنفلوطي أو الرافعي أو طه حسين أو الزيات أو مندور أو لويس عوض أو غيرهم من أبنائهم من حمل اللواء وكان بشهرة أبيه ، ولكن أحيانا يحدث شيء قريب من ذلك ، مثلما الحال مع المفكر الراحل أحمد أمين ، حيث برز نجلاه جلال وحسين رحمه الله ، في مجال الفكر والثقافة ، وإن بوهج ورمزية أقل من أبيهما بطبيعة الحال .
هذه الشهرة والرمزية التي حظي بها المفكر الأب ، تكون عبئا حقيقيا على الإبن الذي يتحسس طريقه إلى دنيا الشهرة والرمزية ، يصعب عليه التخلص منه ، وأحيانا تزعجه معنويا ، وأذكر أننا عندما كنا نصدر مجلة "المنار الجديد" الثقافية قبل حوالي خمسة عشر عاما ، وكنت أرأس تحريرها ، أن شرفنا الدكتور جلال أمين بالكتابة فيها ، وكنت سعيدا بتلك المشاركة ، لأن جلال أمين أحد أهم مفكري مصر حاليا وأكثرهم رصانة وأصالة وجدية ، وله رؤى ثاقبة في التحليل الاجتماعي وفهم حراك الطبقات وأبعاده ، كما كنت أكبر فيه تمرده الدائم على نزعات "الاغتراب" الفكري أو القيمي التي يسقط فيها بعض المصريين تقليدا للغرب وشعورا بالدونية ، رغم أن جلال ـ أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأمريكية ـ انجليزي الثقافة واللغة والزواج والتدريس أيضا ، وكان يتعمد ـ إذا احتاج إلى مفردة أصلها انجليزي ـ أن ينقطها بلهجة عامية أقرب لما يفعله الفلاحون والبسطاء ، وليس بلكنة "الخواجات" ، فإذا ذكر أنه تحدث في الهاتف مثلا ينطلق كلمة "التليفون" بفتح التاء واللام ، بلهجة الفلاحين والبسطاء ، ولا يعبأ باستغراب من حوله من طريقة نطقه .
عندما نشرت مقاله في مجلة المنار الجديد ، كتبت على رأسه اسم المؤلف : (جلال أحمد أمين) ، فلما وصلته نسخة المجلة مطبوعة غضب غضبا شديدا ، واتصل معاتبا ، وقال أنا كتبت لك الاسم (جلال أمين) ، لماذا تضيف من عندك ؟ وشعرت بحرج شديد ، ووعدته بألا أكررها ، وأدركت يومها أن نزعة الاستقلال وأن الفتى من قال ها أنا ذا ، وليس من قال كان أبي ، تهيمن على مشاعره ، فهو المفكر "جلال أمين" وليس المفكر ابن أحمد أمين ، فهو ليس في حاجة لأن ننسبه إلى أبيه لكي نؤكد على أهميته وحضوره ومكانته .
وعلى ذكر المنار الجديد أيضا ، أذكر أن الشاعر المصري والناشط السياسي عبد الرحمن يوسف ، ابن الرمز الديني المعروف الشيخ يوسف القرضاوي ، كان قد أرسل قصيدة له للنشر ، ولم يكن عبد الرحمن مشهورا على نطاق واسع مثلما هو الآن ، ووقعنا في خطأ مشابه بدون قصد ، فكتبنا اسمه على القصيدة (عبد الرحمن يوسف القرضاوي) ، فغضب عبد الرحمن بشدة ، وعنفنا يومها ، وقال : من الذي سمح لكم بالإضافة إلى الاسم ، أنا أرسلت لكم اسمي "عبد الرحمن يوسف" ، وأدركنا يومها أيضا كم هو ثقيل ظل الأب وشهرته على ابنه الذي يتحسس طريقه لإثبات ذاته .
ومن غرائب أسماء الكتاب وحساسيتها عند البعض ما صادفني مع الكاتبة الكبيرة "صافي ناز كاظم" ، وهي واحدة من أنبل وأفضل مثقفي جيلها ، وأكثرهم شجاعة وجرأة في الحق ، ومن فاته شيء مما تكتبه صافي ناز فقد فاته الكثير في الوعي وتحولات مهمة في الثقافة المصرية الحديثة ، وكانت كاتبتنا الكبيرة تغضب غضبا شديدا إذا نشر أحدهم اسمها متلاصقا هكذا (صافيناز) ، وقد تسمع ما تكره إن فعلت ذلك ولو سهوا ، وكانت تشترط أن ينشر اسمها مفردا هكذا (صافي ناز) ، ولم أفهم سببا لتلك الحساسية ، وكنت أراها غير مهمة ، لكن مع "صافي ناز كاظم" لا بد أن تكون ملتزما !