الجمهورية
محمد عبد الحميد
"سيلفي".. أمام الكعبة!!
ملفوفاً بملابس الإحرام تعلو وجهه ابتسامة هادئة. يقف ¢حاج الفيس بوك¢ ضاماً ذراعيه حول بطنه. في وضع الاستعداد لالتقاط صورته الأولي داخل المطار .. الأكثر اجتهاداً. ينقل الحدث. بـ ¢البوست¢ والصورة. من الوضع جالساً فوق مقعده بالطائرة. قبل أن تقلع .. وإذا كان للصورة "السيلفي" جلالها أمام الكعبة. وأعلي جبل عرفات. فإن الاستعانة بصديق تمنح حيوية للصورة. وفرصة أكبر لرفع اليدين بالدعاء. فيما العينان خاشعتان تنظران إلي كاميرا الموبايل .. ¢بوستات الحج¢ لها خصوصيتها. عليك التعليق. أو الاكتفاء بضغطة ¢لايك¢. وذلك أضعف الإيمان.!!
ماذا دهانا ؟!. . ألهذا الحد وصل العبث ؟! .. أهو الحج في نظرهم ¢سيلفي. وبوست علي الفيس¢ ؟!.. علم أن التعرض بنقد لما شاع من أمر أكثر حجاج هذا الزمان. لا شك يغضبهم. بل هو عندهم في حكم المكروه. وربما لدي أغلبهم ذنب يستعصي عليهم أن يغفروه لي. إلا أنني ومن باب الضرورات اللاتي تُبحن المحظورات. أقول لهم إن الحج في أصل معناه. وكذا ملابس الإحرام في معناها الأصيل. ترك للدنيا. بما فيها. وللأرض بما عليها. في إقبال علي الآخرة. واكتفاء بالسماء. وأن الأولي الانشغال عن الدنيا. لا الانشغال بها. انشغال برب الناس عن الناس. خشية إلي حد الفزع. من أن يضيع الثواب. بشبهة رياء. أو سُمعة.!!
قبل "الفيس" بزمان. أذكر وأنا طفل. لم أتجاوز السادسة. ذهبت للشراء من محل ¢بقالة¢ صغير. في بلدتي الصغيرة .. كان ذلك بعد عودة الحجاج. وكان البقال لفوره عائداً من الحج .. لا تفارق مخيلتي علامات الاهتمام علي وجه ¢ فاروق البقال¢. وهو يوجه الخطاط كيف يكتب لقب ¢حاج¢ ببنط عريض قبل اسمه. وفوق المحل. كانوا قد زينوا قبل عودته جدران بيته برسم طائرة. و¢حج مبرور وذنب مغفور¢.. ¢الحاج فاروق¢ غضب مني. وصاح في وجهي عندما نسيت وقلت له ببراءة: "يا عم فاروق". نهرني الرجل بشدة: "اسمي الحاج فاروق". لازلت أتذكر غضبته. ولا أتذكر أنني بعدها اشتريت منه.. أجزم أنه كان سيحب الـ ¢سيلفي¢ أمام الكعبة. وداخل المطار. بملابس الإحرام.!!
ربما ليست بعيدة عن السياق. صورة رأيتها علي ¢فيس بوك¢. منذ أيام .. اللقطة لرجل يجلس متكئاً علي قدميه. ممسكاً بزجاجة مياه معدنية. فيما إلي جواره طفل ممزق الثياب يفترش الأرض. في يد ملعقة يغرسها في طبق أرز. وفي اليد الأخري قطعة دجاج. وعيناه تنطقان بالقهر. ناظراً إلي ¢رجل البر¢. يبتسم للكاميرا ¢علشان الصورة تطلع حلوة¢.. لم تكن الصدقة صادقة .. مَن قال إن الحسنة بعشر أمثالها علي ¢مواقع التواصل¢. ومتي كان الإحسان العلني ¢حسن نية¢؟!
يا سادة. الإيمان ما وقر في القلب. وصدقه العمل .. علامة القبول الإخلاص. وعلامة الإخلاص التخفي حرصاً علي القبول .. وأنتم يا مَن أديتم الفريضة بدلاً من المرة مرات. ألا ترونه أقرب إلي الله مد اليد لفقير معدم. أو علاج مريض يُعجزه فقره. أو ¢ستر فتاة¢ بنفقات الزواج؟.. أليس أحب إلي الله أن يراكم مرة علي عرفات. ومرات عند هؤلاء؟.. واللهِ للقمة في فم جائع. خير من "سيلفي".. أمام الكعبة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف