التحرير
أحمد خير الدين
أوراق معالي الوزير
قدر مصر أن يظهر لها دوما الرجل المناسب في الموقع والتوقيت المناسبين. كم كانت الثقافة المصرية في حاجة إلى رجل بقدرات الأستاذ حلمي النمنم، ليستقر في منصب الوزير. يتحرك بكثافة ودأب، لا يترك فرصة أو مناسبة إلا ويتحدث إلى القنوات التليفزيونية ومراسلي الصحف، يختار بعناية الكلمات التي تحتاج إليها المرحلة عن خطر الإرهاب والتطرف وضرورات التنوير، لا ينافسه في معرفة الطريق إلى الاحتفاظ بالحقيبة الوزارية سوى زميله في مقعد آخر وزير الأوقاف محمد مختار جمعة.

يرهق النمنم روحه ويضغط وقته، وبقدرات ساحرة إلى جانب عمله كوزير لا يحرم الجمهور من إطلالته بكتابة مقالات بعدد أيام الأسبوع في صحف مصرية وعربية مختلفة. يتجول إلى جوار مرتضى منصور وهو يطلعه على تجديدات النادي، ويعددان معا من أنجبتهم ميت غمر من شخصيات عامة تشترك معهما في الأصل نفسه. يبتسم ويضحك لدعابات المستشار، وينظر خجلا حين يشيد الأخير بمقالاته في "المصور".
يعرف الرجل ما يحتاج إليه المشهد، لذا لن تجد غرابة في أن يتحول نجاح مهرجان الإسماعيلية للفنون الشعبية في نسخته الثامنة عشرة على لسان معالي الوزير إلى "رسالة لقوى الظلام أن مصر لن تقع أبدا".

لا يبخل وزير ثقافة مصر بجهده وخدماته المعرفية على الثقافة خارج مصر كذلك. شارك خلال الأسبوع الماضي بمقال طويل ضمن عدد توثيقي من مجلة "الرجل"، مادحا ولي العهد محمد بن سلمان، ومعددًا الإنجازات التي حققها والتغييرات التي لمسها في المشهد الثقافي السعودي مؤخرًا، ومؤكدا أن المملكة يقودها الآن جيل جديد في أفكاره ورؤيته وفنونه. ومتحدثًا عن "الشغف" الذي رآه في زيارته الأخيرة بتمكين المرأة بشكل حقيقي وملموس.
في معارك وأزمات كملاحقة وحبس الكتاب وحصار الرأي ومطاردة الآخرين ببلاغات جنونية، مضى الوزير بعيدًا كأن الأمر لا يعنيه، لكنه ظهر مرات عدة بإصرار وتفان مدهشين، ليؤكد سعودية جزيرتي تيران وصنافير، بل ووعد خلال ندوة أعدها المجلس الأعلى للثقافة عن القضية بإصدار كتيب بالخرائط والوثائق يفصل الأمر ويحسم تبعية الجزيرتين للمملكة العربية السعودية.

انشغال الرجل بهذه الملفات المهمة يبدو السبب الذي أدى إلى تأخره في إنهاء إجراءات تشكيل لجنة التقدم بطلب مصر لترشيح القاهرة عاصمة العالم للكتاب عام 2019، لينتهي الأمر حسب ما نشر الزميل سامح فايز باستقرار الاختيار على إمارة الشارقة، لكنه رغم هذا الفشل في إنجاز مهمة كتلك امتلك من الوقت والطاقة ما لم يبخل به على البحث والنشر، ومن النفوذ ما يمكنه من الوصول إلى ما يستغلق أمام باقي الباحثين. ومن التسهيل والتيسير ما يمكنه من نشر الوثائق الرسمية لبعثة سيد قطب هذا الشهر.

الأوراق التي حاول الكثيرون الوصول إليها لنحو عامين لإنجاز أعمالهم الأدبية أو البحثية فصدتهم أبواب دار الكتب، مرات بمبررات واهية، وأخرى بإحالة الأمر إلى النمنم نفسه للحصول على موافقته، اكتشفنا قبل أيام أين كانت حين أعلنت لنا زوايا الثقافة في الصحف والمواقع الإلكترونية صدور كتاب جديد للسيد الوزير عن دار الكتب والوثائق بتقديمه ودراسته، هو نفسه الذي كان قبل تولي الوزارة -صدفة قدرية- رئيسا لدار الكتب والوثائق.

مصاعب كثيرة يواجهها الباحثون والصحفيون للوصول إلى الوثائق والأوراق داخل دار الكتب والوثائق، منها عدم وجود قاعدة بيانات سهلة، أو معرفة المتاح للاطلاع والدراسة، أو تبرير حجب بعض الملفات بحجج غير مقنعة. جعلهم ذلك كله يفضلون في النهاية اللجوء إلى الأزبكية والسيدة وشارع النبي دانيال، علهم يجدون فيها ضالتهم، أو محاولة إيجاد بديل أقرب في جامعات الخارج وتحمل تكلفة الوقت والجهد والمال، لكن المفاجئ أن هذه الصعوبات انضمت إليها مؤخرا رغبة الوزير في استمرار نشاطه الثقافي إلى جانب عمله الحكومي. فانتقلت الوثائق الخاصة بسيد قطب الذي أعد عنه كتابين قبل ذلك، لتشكل كتابه الثالث بعد "سيد قطب وثورة يوليو" و"سيد قطب سيرة التحولات".

بمقدمة تصلح كرابط إضافي في صفحة ويكيبيديا يبدأ الكتاب، الذي يبدو في كل سطر أنه أعد على عجل، وفي مقطع من المقدمة يتحدث عن دوافع التطرف، ويرى أنه لا يتنافى مع الثقافة والمعرفة كما في حالة سيد قطب، ومحمد شومان وفضل شاكر، ولم يذكر اسم الأخيرين بل وصفهما.

أما "الدراسة" فبدلا من أن تفرد لنا مساحة تشرح هذه الأوراق وتفند ما فيها، فاكتفى السيد الوزير بنحو عشرين صفحة تشبه فهرسا يعرض فيه ما في الأوراق من معلومات، تنتهي بأن سيد قطب لم يقدم شيئا ذا بال في مجال التعليم الذي نال عنه البعثة، وهي معلومة يعرفها أي عابر.

إذا لم يكن هذا استغلالا للمنصب فما اسمه؟ وإذا لم يبادر كاتب تولى منصبا كهذا إلى درء الشبهات والابتعاد عما يقربه من اتهامات الاستفادة من موقعه والانتصار لمهنته وقيمته إلى أن يترك المنصب الذي لن يدوم ليعود إلى عمله، فأين من يحاسبه أو يوقفه عن ذلك؟
أتيح لنا أن نعرف مصير الوثائق بعد أن ظهرت في كتاب، ألا يتركنا هذا إلى قلق وتساؤل عن مصير باقي الوثائق؟ وهل من الممكن أن تجد طريقا أخرى غير النشر؟
قديما كانت من أماني العاملين في حقلي الثقافة والإبداع أن يتولى هذه المناصب مبدعون لا موظفون، مروا بالمصاعب وواجهوا الأزمات، فعرفوا ما الذي يحتاج إليه الأمر، فسيسعون حين تنتقل إليهم المهام إلى تسهيل الصعب وإزالة العقبات والخروج من متاهات الأوراق والبيروقراطية وقتل الوقت بالموافقات والتصاريح، فإذا بالأمر ينتقل إلى منافسة صغار الباحثين والكتاب في نيل الفرص، ومزاحمتهم في مجال عملهم وعدم الرضا والاكتفاء بالمناصب.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف