فجأة.. وعلى غير انتظار.. ثارت قضية الرغبة فى تعديل الدستور، وطفت على سطح الأحداث السياسية الساخنة فى المجتمع.. الرغبة أثارها نواب فى البرلمان، وسرعان ما تلقفها الإعلام، فأثيرت حُمى التساؤلات.. وحتى ندخل فى صلب الموضوع دون مواربات؛ فإن العنوان الكبير للتساؤلات بشأن التعديلات المقترحة، هو سؤال رئيسي.. هل توافق على مد فترة الحكم الرئاسية من 4 إلى 6 سنوات؟.. تلك هى القضية!.
وفى ظل الاستقطاب العام الحاصل فى المجتمع، بين مؤيد للنظام على الدوام، ومعارض على طول الخط، على اختلاف نسبة كل من الجانبين، فإننى أجد نفسى مدفوعا، قبل محاولة الإجابة عن سؤال «تعديل الدستور»، إلى توضيح أمرين مهمين.. أولا: إننى أعلن دائما تأييدى للنظام السياسى الحالى فى مصر، والإجراءات والسياسات التى يتخذها فى المجمل، لكننى أعلن أيضا اختلافى مع رؤيته فى ملفات، مثل الحريات، وإخفاء المعلومات عن الشعب، فضلا عن سوء إدارة الأزمات.. وثانيا: إننى أعلن دائما أنه ليس من منهجى توزيع الاتهامات بالمجان؛ سواء اتهامات «الخيانة» لغلاة المعارضين، أو الاتهام بـ «النفاق» لغلاة المؤيدين، إذ لا خيانة إلا بحكم قضائي، كما أننا لا نملك أن نشق عن صدور البشر، لنعرف إن كانوا منافقين باحثين عن مصلحتهم أم مخلصين لنتاج عقولهم.. وإلقاء الاتهامات لا يقنع أحدا ولا يبنى وطنا.. لذا فلنشتبك.. لكنه اشتباكٌ فى الموضوع.. لا مع الأشخاص.. بالتفصيل والتحليل.
لندخل إذن فى الموضوع.. يقول لك المؤيدون لمسألة «التعديل» إن الدستور ليس نصا مقدسا بل يمكن تغييره إن تبين أن للوطن مصلحة فى ذلك.. وهذه مسألة صحيحة بالطبع من الناحية النظرية والمبدئية.. ثم يوضحون لك أكثر فيقولون إن الدول التى تمر بمراحل البناء، مثل مصر، لا يمكن فيها أن تكون فترة السنوات الأربع كافية لأى رئيس حتى يستكمل مشروعه.. وهذه مسألة ستكون مثار جدل كبير بين الآراء.. لكننى فى الحقيقة أريد أن أتخطى كل ذلك.. وأتجاوزه إلى نقطة أخرى ذات دلالة.. بل لعلها فى رأيى «نقطة الفصل».
التوقيت.. توقيت الدعوة إلى تعديل الدستور هو نقطة فى غاية الأهمية.. لماذا الآن؟!.
الآن.. أصبح يفصلنا عن بدء إجراءات الانتخابات الرئاسية المقبلة أقل من 6 أشهر.. فهل ظهر الآن فقط أن مصلحة الوطن هى فى تعديل الدستور لزيادة الفترة الرئاسية عامين آخرين؟!.. وهل تبين الآن بالتحديد أن فترة الحكم الرئاسية غير كافية لاستكمال البناء والتنمية؟!.. من المتعارف عليه داخل الهيئات والمؤسسات والمصالح الحكومية أن هناك ما تُسمى بـ «فترة الريبة» بالنسبة لأى مسئول فيها يقترب من موعد انتخابات، أو ينتظر تجديد تعيينه، فيمتنع عليه خلال هذه الفترة اتخاذ قرارات قد تحمل شبهة إمكانية تفسيرها بناء على الدوافع الشخصية أو المصلحة الذاتية لهذا المسئول.. فما بالك عندما يتعلق الأمر بمنصب رئيس مصر.. أليس من حقنا وقتها أن نتساءل.. من يفعل هذا بنا وبمصر؟!.
فى رأيي.. إن هذه الدعوة، لاسيما توقيتها، إنما تعكس حالة غياب «الحياء» فى الممارسة السياسية الحالية فى مصر.. ولا يظننّ أحد أننى بهذا قد انقلبتُ على منهجى فى رفض إطلاق الاتهامات وشخصنة القضايا.. إذ أن غياب «الحياء السياسى» هو مفهومٌ سأفسره لك حالا.. وهو لا يعنى ما قد يتبادر إلى الأذهان من مرادفات فى الحياة الخاصة للأفراد.. ولكن - قبل التفسير- إعلم أولا أن غياب «الحياء السياسي» يشترك فيه غلاة المؤيدين وغلاة المعارضين أيضا!.
فى ظل غياب «الحياء السياسي».. تجد أن كل الخصوم السياسيين يرفعون سقف خطابهم ومطالبهم وممارساتهم وتوقعاتهم إلى المنتهى بفجاجة.. دونما قدر من واقعية أو موضوعية.. ودونما مراعاة لمعطيات الظرف السياسي.. وبغير حسابات كافية لردود الأفعال المقابلة فى الداخل والخارج.. فى ظل غياب «الحياء السياسى» لا مجال للتفكير فى بناء توافق وطني.. أو حتى السعى إلى «كسب نقاط» فى المعارك السياسية المعتادة فى المجتمعات الديمقراطية.. فالمعارك لدينا دوما حروب تكسير عظام.. سواء من جانب غلاة المؤيدين أو غلاة المعارضين.. كلها مواجهات إقصاء وتخوين.. السلاح فيها هو الصراخ والجلبة لا الحسابات السياسية الدقيقة.
فى غياب «الحياء السياسى».. يرفع غلاة المؤيدين سقف توقعاتهم إلى إمكانية الوصول إلى إجراء استفتاء على تعديل الدستور قريبا.. سعيا إلى مد عامين آخرين للرئيس دون إجراء الانتخابات المقبلة.. دونما أى تفكير فى معنى ودلالات هذه الخطوة وتأثيرها على صورة التجربة السياسية الجديدة فى مصر ككل.. تجربة 30 يونيو.. وفى المقابل.. وفى غياب «الحياء السياسى» أيضا.. تجد غلاة المعارضين يجهرون لك بثقة مؤكدين أن الرئيس لن يتمكن من الفوز فى أى انتخابات مقبلة إذا أجريت بشفافية.. دون أى إدراك لمعطيات الشارع والواقع.. ودون أن يجيبوا عن سؤال آخر كبير.. ومهم.. أين مرشح المعارضة للانتخابات الرئاسية المقبلة؟!.. إليكم هذه المعلومة: الانتخابات بعد أشهر!.. لعلكم تخفونه ليكون مفاجأة!.
أخيرا أقول.. لا نعلم يقينا من يقف حقا وراء الرغبة فى تعديل الدستور.. لكننا فى كل الأحوال سنظل خلال الأشهر المقبلة مفتوحى الأعين.. متيقظى العقول.. دفاعا عن الوطن.. مصر.. ندافع عنها ونحميها.. بالحوار والحجة والإقناع.. لا بالسباب والتخوين والإقصاء.. مهما غاب «الحياء السياسى» عن البعض!.