التحرير
محمد المنسى قنديل
ذاكرة عنيدة
رسم تخيلي للذاكرة العنيدة التي كان يتمتع بها إلكسندر شيريفسكي الذي اشتهر في الدراسات العصبية والنفسية بالمواطن "إس". الذاكرة خوانة، يعلمنا التقدم في العمر هذا الدرس، وكان أبي يقول إن الإنسان قد سمي كذلك لأنه ينسى، وهي نعمة، لأن الأحزان تخف والجروح تندمل، ولكن النسيان يصبح لعنة مع مرور السنين، عندما تسقط الأسماء وتصبح ملامح الوجوه غامضة، كل سطر جديد حتى ولو كان باهتا، يمحو سطورا قديمة، وكل ذكرى تطيح بذكريات مهما كان اعتزازنا بها، وهذا شيء محزن، فكل شيء في الحياة هو مجرد ذكرى، تتخللها شذرات من الحاضر، وفي تلك المرحلة من العمر أحزن كثيرا عندما أرى وجوها كانت ذات لحظة تمثل علامات مهمة في حياتي ولا أستطيع أن أتذكر أسماءها. يقولون إن الذاكرة انتقائية، ولكني أخالفهم الرأي، فنحن لا نستطيع اختيار ما يتبقى في ذاكرتنا، فهناك لحظات مهما حاولنا التمسك بها تضيع منا، وهناك لحظات أخرى تؤرقنا رغم محاولة تناسيها أو إسدال ستائر التجاهل حولها، إنها تقاوم وتبقى حتى يظل إحساسنا بالذنب قائما، هذا هو ما يؤرقني حقا في هذا العمر. الأخطاء والذنوب تلاحقنا دون نسيان، إحساس دائم بأن هناك رقيبا يتابعك وأن لحظة الحساب آتية. بالنسبة للكثير منا، نحن نتذكر وننسى ونغضب ونصفح وتتواصل الحياة في ظل توازن حرج، ولكن في بعض الحالات تكون ذاكرة البعض عنيدة، ترفض أن تتغاضى، لا يوجد فيها هذا الكهف المظلم الذي يسمى النسيان، هل هي نعمة أم نقمة؟، ربما تحمل قصة المواطن "إس" جوابا عن هذا السؤال. في أحد أيام أبريل عام 1929 دخل شاب في العشرينيات من العمر، هادئ الملامح وعليه شيء من الوسامة، إلى أكاديمية موسكو للعلوم الطبية، وطلب أن يقابل أحد المتخصصين في علوم الذاكرة، هذا الرجل الذي عرف فيما بعد في دراسات علم النفس بالرمز "إس" كان قد تم إرساله إلى الأكاديمية وهو يحمل رسالة من رئيسه في العمل يطلب إخضاعه للاختبارات النفسية، كان يعمل محررا في إحدى الصحف التابعة للدولة، يكتب مقالات صغيرة ساخرة من بعض المظاهر الاجتماعية، وكان الاتحاد السوفييتي المترامي الأطراف يعيش تحت وطأة حكم ستالين، والخطأ الواحد مهما كان صغيرا يكلف حياة كاملة، ولاحظ رئيس التحرير أثناء الاجتماع الصباحي أن "إس" يجلس صامتا، عاقدا ذراعيه، لا يقوم بتدوين أي ملاحظات، استدعاه إلى مكتبه بعد انتهاء الاجتماع واتهمه بأنه لا يحترمه ولا يأبه بكتابة تعليماته، على أهميتها، ورد عليه "إس" في هدوء بأنه ليس في حاجة لذلك، وسرد عليه كل كلمة قيلت في الاجتماع، لم يقتنع الرئيس، تناول نسخة من الصحيفة وقرأ مقطعا مطولا من أحد المقالات، ولدهشته أعاد "إس" ترديد كل كلمات المقال بحذافيرها، وتحير الرئيس في أمره وقرر إرساله للأكاديمية حتى يقوم المختصون بفحص رأسه.
كان الإخصائي الذي قابله هو الدكتور إلكسندر لوريا، مشهورا بدراساته في العلوم العصبية والنفسية، وقد أعد له قائمة طويلة تحتوي على أرقام وكلمات ومقاطع مختارة بطريقة عشوائية وألقى "إس" عليها نظرة عابرة وأعاد ترديدها كاملة، وحتى عندما قابله الطبيب للمرة الثانية بعد 15 عاما وجده يتذكر القائمة كاملة دون نقصان، "ببساطة عليّ أن أعترف بأن مقدرة ذاكرته كانت بلا حدود" هكذا كتب في شرحه لحالته بعد أن أخذ يتتبعه على مدى سنوات، وقد اكتشف أن "إس" نفسه كان ضائقا بهذه الذاكرة العنيدة، وحاول أن يتخلص منها. وكتب لوريا عن هذه المحاولة قائلا: "لقد حاول تطهير ذاكرته من الأشياء التي يود ألا يتذكرها وكتب قائمة بكل الأشياء التي يريد أن ينساها، ولكنه فشل في ذلك، وفي النهاية أحرق القائمة"، لقد حدد لوريا بعضا من الصعوبات التي واجهها "إس" في حياته وهي عدم قابليته للنظر للحياة بصورة مجردة، وأنها نظرة غارقة دوما في التفاصيل اليومية التي لا يستطيع إلا أن يتذكرها، وأنه يعاني نوعا من القصور الإدراكي بسبب ذاكرته غير العادية، الأمر يختلف عن الذاكرة الشخصية التي نمتلكها والتي يمكن أن نطلق عليها الذاكرة الدلالية، وهي تشتق المعنى من العالم الذي يحيط بنا بعد أن نتخلى عن بعض من تفاصيله. الكاتب الأرجنتيني الشهير خورخي لويس بورخس كتب قصة بهذا المعنى بعنوان "ذاكرة فونيس"، قصة خيالية تدور حول رجل موبوء بهذا النوع من الذاكرة العنيدة، ويرى بورخس أن التفكير يعني أن ننسى الاختلافات وأن نسعى للتعميم والتجريد، وفي عالم فونيس الذي يغمره فيضان التذكر لا يوجد إلا التفاصيل، تفاصيل متجاورة في معظمها، لا تطغى واحدة على الأخرى، وفي كل عملية تذكر تطفو جميعها معًا، لأن كل كلمة، كل فكرة، مشحونة بعشرات التفاصيل، ومثل فونيس فإن "إس" له لغة خاصة، لغة مليئة بالمعاني المتراكمة. ظل اسم "إس" مجهولا لسنوات، حتى نشر لوريا كتابه عنه، وأمكن التعرف على اسمه الحقيقي وهو سلمون شيرشفيسكي، وقد عاد في نفس اليوم إلى رئيسه في الصحيفة وأخبره أنهم قد اكتشفوا أن قدراته في التذكر خارقة للعادة، وخاف الرئيس من هذا الأمر، خشي أن يتذكر أشياء ليس من المطلوب تذكرها، وفي زمن ستالين كان الخوف مشرعا أمام أي ظاهرة غير طبيعية، ونصحه الرئيس بأن يترك الكتابة ويتجه إلى شيء يمكن أن يستفيد منه بهذه الذاكرة وبالفعل ترك "إس" الكتابة بسرعة وارتياح، كان يشعر أن مقطوعاته الساخرة يمكن أن تقوده إلى سيبيريا، ووجد أن أفضل مكان يمكن أن يخفي فيه ظاهرته هو العمل في السيرك، فأخذ يصاحب إحدى الفرق في جولاتها وينظم الاحتفالات في المدن المختلفة، وفي وقت قصير أصبح مدربا للحيوانات، كان يتذكر كل تفاصيل حيوانات السيرك، حركاتها وطبائعها ويبتعد عن كل ما يثيرها، ونجح في عمله، ولكن ذاكرته الخارقة ظلت تؤلمه ولا تهبه الراحة. وبعيدا عن القائمة التي قام بحرقها سابقا، فقد وجد "إس" وسيلة أخرى للتخفف من وطأة الذاكرة، بأن أدمن شراب "الفودكا" بشراهة، وفي هذا الوقت كان الشراب بالنسبة للمواطن السوفييتي نوعا من الهجرة الداخلية ومات بالفعل من مضاعفات الكحول، ولعل هذه النهاية الحاسمة هي التي أوقفت نشاط ذاكرته العنيدة التي لا تهدأ.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف