أحمد سعيد طنطاوى
نجيب محفوظ المصنوع من القطيفة
فى ذكرى وفاة عميد الرواية العربية أرغب فى الحديث عن نفس نجيب محفوظ الهادئة المتسامحة عبر عدة مشاهد متنوعة، من بينها ما حدث مؤخرًا عندما خرجت "أم كلثوم"، ابنته لتعلن أن قلادة النيل التي تسلمها من الرئيس محمد حسني مبارك، عام 1988، تقديرًا لحصوله على جائزة نوبل في الآداب، لم تكن مصنوعة من الذهب الخالص، وإنما بعد الكشف عليها مباشرة تأكدت الأسرة أنها "فضة مطليّة بالذهب".
وأهم ما كشفته "أم كلثوم" هو تأكيدها على هدوء نفس وروح والدها، حينما ذكرت أن والدها لم يكن ينتوي أن يخبر أحدًا حول حقيقة القلادة التي لم تكن ذهبًا خالصًا، وإنما قرر أن يصمت والدها ويتكتم على الأمر، إيمانًا منه بقيمة القلادة المعنوية.. لكنها قررت أن تثور على هذا الكتمان وأن تفصح عن هذا الأمر بعد حوالي ٣٠ سنة من حصوله على نوبل.
"النفس الهادئة المتسامحة" هي مفتاح شخصية نجيب محفوظ، فالموقف الذى ذكرته ابنته "أم كلثوم" يوضح أنه شخصية متسامحة لا تريد الحرب ولا الصدام ولا الجدال أو المعارضة الزاعقة ولا تسعي إليه.
مشهد أخر، تلك الصورة الجميلة المنتشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والتى يظهر فيها محفوظ يمد يديه بالسلام إلى توفيق الحكيم الماسك بعكازة الشهير، ويقف بينهما يوسف إدريس بضحكة مجلجلة نشعر بها ونسمعها رغم أنها انطلقت من الماضي، فيما يقف على أقصي يسار الصورة إحسان عبدالقدوس بسيجاره الشهير مبتسماً.. لحظة تاريخية نادرة ربما تتكرر يوميا بين الأصدقاء، لكنها مصادفة التاريخ وانصافه – إن جاز التعبير - التي قد تكون مقصودة حين أظهرت السلام فى يد محفوظ.
ربما السلام فى يد محفوظ وروحه، هو ما جعل شاعرًا بحجم نزار قباني يصب غضبه على نجيب، حين اعترض نجيب على ثورة نزار لما تمت محادثات السلام في مدريد.. فكتب نزار يقول: «الأستاذ نجيب محفوظ إنسان رقيق كنسمة صيف، وحريري في صياغة كلماته، ورسولي في سلوكه على الورق، وسلوكه في الحياة، إنه رجل اللاعنف الذي يمسك العصا من وسطها.. ولا يسمح لنفسه بأن يجرح حمامة.. أو يدوس على نملة.. أو يغامر.. أو يسافر.. أو يغادر زاويته التاريخية في حي سيدنا الحسين.. هو رجل السلام والسلامة، ولا يعرف عنه أنه تشاجر ذات يوم مع أحد.. أو تعارك مع رجل بوليس.. أو وقف في وجه حاكم أو أمير.. أو صاحب سلطة.. إنه دائما يلبس قفازات الحرير في خطابه الاجتماعي، والسياسي.. ويتصرف (كحكومة الظل) في النظام البريطاني»".
ويستكمل نزار كلامه : فإذا كان الأستاذ نجيب محفوظ يرى موقفي (ضعيفًا)... ويطالبني بأن أصفق لمسرحية اللامعقول التي يعرضونها علينا بقوة السلاح، وقوة الدولار، فإنني أعتذر عن هذه المهمة المستحيلة، ربما كنت في قصيدتي حادًا، وجارحًا، ومتوحش الكلمات... وربما جرحت عذرية كاتبنا الكبير، وكسرت زجاج نفسه الشفافة، ولكن ماذا أفعل؟ إذا كان قدره أن يكون من (حزب الحمائم)... وقدري أن أكون من (حزب الصقور)؟
ماذا أفعل إذا كان أستاذنا نجيب محفوظ مصنوعًا من القطيفة... وكنت مصنوعًا من النار... والبارود؟
ورغم تهكم وسخرية نزار على محفوظ إلا أنه قد ذكر فيه صفاتا كثيرة أهمها التسامح والهدوء والسلام النفسي.. لا الثورة والنار والبارود.. ومحفوظ لم يرد على نزار وكعادته محفوظ "قال كلمته ومشي"
وإن كان نزار يري أن محفوظ خلق من القطيفة الناعمة فإن الكاتب محمد سلماوي الذى لازم وصاحب محفوظ كثيرا يؤكد نفس المعني.. فسلماوي يري أن "محفوظ مثل حديقة جميلة متنوعة الأشجار والأزهار وأنه يجب أن يجمع من حين الي حين ثمارها الناضجة وأن يقدمها للقراء".. وفى رأيي اختيار سلماوى للحديقة وصف دقيق فالحديقة لا تكون صاخبة أبدا وإنما تنمو فى هدوء وتثمر فى تسامح وود.
مشهد أخير - لضيق المساحة - فى أكتوبر 1995 أكد طبيعة نجيب محفوظ المتسامحة حينما طُعن فى عنقه على يد شابين قررا اغتياله لاتهامه بالكفر والخروج عن الملة بسبب روايته المثيرة للجدل "أولاد حارتنا"، علق قائلا: "إنه غير حاقدٍ على من حاول قتله، وأنه يتمنى لو أنهما لم يُعدما".. ولكن فيما بعد أُعدم الشابان المشتركان فى محاولة الاغتيال، المشبعان بحقد النفس.. وبقيت نفس نجيب محفوظ المشبعة بـ "الرهافه والنقاء" كما وصفها كاتبنا الكبير سمير عطا الله فى جريدة الشرق الأوسط.