الأهرام
بهاء جاهين
الروح الأمريكية فى «مستر فيرتيجو»
من الأعمال الجيدة, التى أصدر ترجمتها العربية المركز القومى للترجمة, رواية «مستر فيرتيجو» (= الأستاذ دُوار) للكاتب والشاعر الأمريكى بول أوستر, ومن ترجمة الشاعر المصرى عبد المقصود عبد الكريم. وحسناً فعل عبد الكريم حين أبقى اسم الرواية واسم بطلها كما هو عنواناً للترجمة دون نقل إلى العربية, لأنه لقب بطل الرواية وراويها, فتعامل معه كاسم عَلَم لا صفة. وسيكون لنا حديث عن الترجمة فى نهاية هذه الكلمة؛ ولكن من المنطقى أن نتحدث فى البداية عن النص الروائى نفسه والعالم الذى قدمه بول أوستر.

الملحوظة الأم - التى تتوالد عنها بعض التأملات التفصيلية ــ أن «مستر فيرتيجو» رواية تتجلى فيها بشدة الروح الأمريكية, التى يعكسها الأدب كما تعكسها السينما والحياة نفسها فى الولايات المتحدة. أولاً: العمل ــ كما فى كثير من الأفلام والكتابات الأمريكية ــ يحكى عن قصة نجاح, وإن كان نجاحاً تدهمه كارثة وهو فى الأوج, كما سنرى بعد قليل. ثانياً: حياة الشخصية الرئيسية, الذى هو راوى الحكاية, مليئة بالمغامرات والأحداث التى تشبه أفلام الآكشن الأمريكية, خاصة فى النصف الثانى من الرواية, ففيها هروب ومطاردات وعصابات.... إلخ. ثالثاً: قصة النجاح فى العمل وإن كانت تحتوى بعداً روحياً وهو ما سنناقشه معاً فى السطور التالية ــ إلا أنها تعكس أيضاً حلم الثراء الأمريكي, فى أرض الأحلام التى يمكن ــ كما يقال ــ أن يصبح فيها الصعلوك مليونيراً.

كل هذا موجود فى الرواية؛ إلا أن تحت هذا السطح النمطي, الذى يذكِّرنا بالسينما والكتب الأكثر مبيعاً فى الولايات المتحدة, يقبع بُعدٌ شعرى روحانى ذو دلالة رمزية غنية قابلة لعدة تأويلات. فبول أوستر يحكى عن طفل استطاع أن يطير؛ أن يحلق على ارتفاع ليس بالعظيم, ارتفاع الشجر والعصافير لا أكثر, بل وأن يمشى على الماء أيضاً! وهذا لم يحدث دون كبد وشقاء ومشقة وآلام عظام.. إلا أن الراوي, الذى هو الطفل بطل الحكاية, يُنهى سرد قصة حياته, بعد أن بلغ الشيخوخة وحكمتها واستخلاص الخلاصة من تراكم الخبرات- أقول يُنهى الحكاية بتعليق مفاده أن كل إنسان قادر على تحقيق تلك المعجزة, مقدماً فى السطور الأخيرة ما يشبه وصفة بوذية من وصفات تمارين اليوجا: «اترك نفسك تتبخّر, اترك عضلاتك تتراخي, وتنفّس حتى تشعر بروحك تندفع خارجة منك, ثم أغلق عينيك.. هكذا يتحقق الأمر: يصبح الخواء داخل جسمك أخف من الهواء حولك. وتدريجياً, ينعدم وزنك, تغلق عينيك, تفرد ذراعيك, تترك نفسك تتبخر, ثم ترتفع تدريجياً عن الأرض.. هكذا».

ثم يطير ذلك الشيخ الذى سموه فى طفولته «والت الولد العجيب»؛ والذى اضطر إلى التوقف - بعد بلوغه المراهقة ذ عن استعراضات التحليق والمجد لأن مخه لم يعد يتحمل.. هذا هو العمود الفقرى لقصة النجاح والمغامرات هذه, التى يمكن فك رموزها بتأويل ليس هو الوحيد, لكنه أحد التأويلات الممكنة: فموهبة الطيران والسير على الماء من الممكن فهمها وقراءتها على أنها رمز للقدرة الإبداعية؛ للكتابة بتحديد أضيق, إذا أردنا ربط الطفل الذى يطير بكاتب العمل نفسه.. إلا أن الرمز قابل كما قلنا لأكثر من تأويل.. وهذا سر جماله.

أما عن الترجمة, فهى فى مجملها جيدة, ولا يعيبها إلا بعض الهنات؛ حين يميل المترجم أحياناً إلى نقل بعض المفردات مستخدماً مقابلها الحرفي, بينما يتطلب الأمر فى رأيى الإتيان بالمقابل الاصطلاحى فى لغتنا: أى ما نقوله نحن فى سياق لغوى مطابق بمفردات تختلف لكنها تؤدى نفس المعنى الذى أراده كاتب النص الإنجليزى . لكننا فى النهاية لا نملك إلا أن نحَيى الجهد المشكور لمترجم أديب شاعر قَدّم للقارئ العربى نصاً غنياً ممتعاً, محافظاً على الكثير من ذلك الغنى وتلك المتعة التى يحفل بها النص الأصلي.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف