ماجد حبته
ناجي العلي.. أشرف مروان.. و«آفة الأخبار»!
تعيش الأحداث والحوادث بتعدد وتضارب رواياتها ورواتها، وتموت إذا تطابقت الروايات واتفق حديث الرواة حولها. لكن في وجود مستفيد، يكون غالبًا هو صانع هذا الحادث أو ذلك الحدث، يظهر كل فترة رواة تحت الطلب، وبغبغانات (أو ببغاوات) بالإيجار، لإعادة إحياء الميت أو الذي كان من المفترض أن يموت!.
رواة من هذا النوع أصدروا طبعة عربية (مصرية) من كتاب إسرائيلي عن أشرف مروان، بعد عشر سنوات من اغتياله في ٢٧ يونيو ٢٠٠٧ بدفعه من شرفة منزله بلندن. و«بغبغانات» من هذه العينة، ستقوم بأدوارها التي رسمها لهم مَن استأجروهم، الذين هم أنفسهم مَن أرسلوا في طلب الرواة وأصدروا لهم الأوامر. ولا أعتقد أنني أخطئ لو استنتجت أن مَن استأجروا وطلبوا وأمروا، هم أنفسهم (أو الجهة التي يعملون لحسابها) مَن يقفون وراء إعلان الشرطة البريطانية إعادة فتح التحقيق في اغتيال ناجي العلي، بعد مرور ثلاثين عاما على الحادث!.
رسام الكاريكاتير الفلسطيني الشهير، لقي مصرعه في مثل هذا اليوم سنة ١٩٨٧ بعد أسابيع من إطلاق الرصاص عليه في أحد شوارع غرب العاصمة البريطانية لندن. ووقتها، قال شهود عيان إنهم شاهدوا رجلًا مسلحًا يتبعه، له ملامح شرق أوسطية، وعمره قرابة ٢٥ عامًا، فرّ بعد الهجوم. وقال آخرون إنهم شاهدوا آخر بعد دقائق قليلة من الحادث، يركب في سيارة مرسيدس. والآن، تريد وحدة مكافحة الإرهاب التابعة للشرطة البريطانية الحصول على معلومات عن الرجلين!.
الآن، وبعد مرور السنوات الثلاثين، وجهت الشرطة البريطانية نداءً لمن لديهم معلومات. وفسر أو برر دين هييدن، رئيس قيادة مكافحة الإرهاب في الشرطة البريطانية، إعادة فتح التحقيق الآن بأنها «من الممكن أن تتغير الولاءات، وبالتالي فإن الأشخاص الذين لم يكونوا على استعداد للتحدث في ما مضى ربما يبدون اليوم استعدادًا لتقديم معلومات حاسمة».
الكلام في التفسير أو التبرير عن احتمالية تغير الولاءات، يعني بوضوح تكرار اتهام منظمة التحرير الفلسطينية بالضلوع في الجريمة، وهو الاتهام الذي أشيع وقت وقوع الحادث وقيل إنه يأتي في إطار حملة تقوم بها منظمة التحرير الفلسطينية لتكميم أفواه منتقديها، لكن المنظمة نفت ذلك تمامًا، بينما كان اللغز الأكبر هو ذلك الطالب الفلسطيني الذي تم إلقاء القبض عليه، وتم سجنه لاحقًا بتهمة حيازة أسلحة ومتفجرات. إذ إن هذا الطالب اعترف أثناء التحقيق بأنه كان يعمل لصالح منظمة التحرير الفلسطينية والمخابرات الإسرائيلية، الموساد!.
الأدوار التي تلعبها بريطانيا في المنطقة، وحوادث الاغتيالات المتكررة في لندن، تجعلنا نستنتج اللاعب ونستخلص أسباب اختياره ساحة للعب. خاصة مع البرود الظاهر والارتباك المفتعل التي يلازم التحقيقات في ملابسات غالبية الحوادث أو كلها، وانتهائها إلى لا شيء: لا يزال الفاعل في جريمة اغتيال ناجي العلي مجهولًا، وفي حالة أشرف مروان انتهت التحقيقات إلى أنه إما انتحار أو جريمة قتل نفذتها عناصر غير معروفة!.
مع استنتاج اللاعب، واستخلاص أسباب اختياره، يمكننا الربط بين تزامن إعادة فتح التحقيق في اغتيال ناجي العلي والإعلان عن شراء شركة إنتاج سينمائي أمريكية لحقوق كتاب «الملاك.. الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل»، ثم صدور طبعة عربية (مصرية) من ذلك الكتاب الذي يكرر فيه مؤلفه اتهامات سبق الرد عليها بشكل قاطع، تنال من أشرف مروان، صهر «عبدالناصر» ومدير مكتبه، ومستشار الرئيس «السادات» والذي قال عنه «مبارك» إنه كان «رجلًا وطنيًا بحق»!. والإشارة هنا مهمة إلى أن صديقي وزميلي عبدالوهاب داوود لفت نظري إلى أن الكتاب يباع بأقل من نص ثمنه (١٤٥ جنيها بدلًا من ٣٦٠) في مكتبات «دار تنمية» شريكة «الدار العربية للعلوم» في ارتكاب الجريمة!.
«أوري بار-جوزيف»، مؤلف الكتاب، كان طوال ١٥ عامًا ضابطًا في جهاز المخابرات العسكرية الإسرائيلية. وكما سيتم تنفيذ الفيلم بمخرج وكاتب سيناريو وممثلين إسرائيليين، فلا نستبعد أن تكون تلك الصيغة التي خرجت بها الطبعة العربية (المصرية) من الكتاب الذي صدرت طبعته أو ترجمته الإنجليزية، في مثل هذه الأيام العام الماضي، عن دار نشر «هاربر كولينز» في الولايات المتحدة.
الكتاب، الذي تم نشره بالعبرية تحت عنوان Hamal’ach لم يكن هو الأول ولن يكون الأخير، لكن ما يميز هذا الكتاب بالذات هو أنه جاء بمثابة «اعتذار» من مؤلفه عن كتاب سابق عنوانه «حين سقط جندي المراقبة في النوم» (The Watchman Fell Asleep) صدرت ترجمته الإنجليزية عام ٢٠٠٥، تناول فيه أسباب ومظاهر ونتائج الفشل المخابراتي الإسرائيلي الذي أدى إلى هزيمتهم في السادس من أكتوبر، وكاد أن يقضي على الكيان الإسرائيلي بشكل كامل ونهائي، لولا التدخل الأمريكي الذي قام بتغيير النتائج ميدانيًا.
بصدور الطبعة العربية (المصرية) من الكتاب الإسرائيلي، وبإعلان الشرطة البريطانية إعادة فتح التحقيق في اغتيال ناجي العلي، ستتوالى كالعادة، المقالات والنقاشات، طوال أسابيع أو شهور. وبين دفاع المدافعين وهجوم المهاجمين ومحاولة مدعي الحكمة الوقوف في منطقة وسط بين الطرفين، ستعود الحوادث والأحداث إلى الحياة، وتقفز إلى الواجهة قصص معادة الإنتاج، حول الحياة والموت.. العلاقات والصراعات.. والخيانات والمؤامرات!.
قالوا قديمًا إن «آفة الأخبار رواتها». وفي وجود رواة تحت الطلب، وبغبغانات (أو ببغاوات) بالإيجار، يمكننا التأكيد على الأضرار والكوارث التي قد تتسبب فيها تلك «الآفة» وتستوجب اقتلاعها من جذرها، حتى يظل الميت ميتًا وتفشل محاولات مَن استأجروا وطلبوا وأمروا.