الدستور
د. محمد عفيفى
الحج.. زيارة وتجارة «2»
«لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك».. نداء الشوق من الحاج إلى ربه، وإلى البلد الحرام.
هل نتخيل طبيعة رحلة الحج من الأندلس «إسبانيا» أو من جاوه «إندونسيا»؟ عبور البحر، أو اختراق الصحراء، أسابيع وربما أشهر، أحيانًا فى الشتاء القارس وأحيانًا أكثر فى لهيب الصيف، طمعًا فى الخروج من وحشة المعصية إلى أُنس الطاعة.
ولكن هل فكر أحد فى البُعد الاقتصادى، وربما الثقافى للحج؟
نعم الحج هو أيضًا من أكبر الظواهر الاقتصادية التى عرفها التاريخ، حتى إن البعض وصفه بأنه «السوق الإسلامية المشتركة»!!
لمَ تذكرت كل ذلك؟!!
تذكرت كم طلب الصغار من هدايا ولعب من الجد ليشتريها من الحجاز، وطلب الكبار أدوات كهربائية و«حتة قماش صوف تنفع بدلة»، آه الجانب الاقتصادى من الحج. سماحة الإسلام أنه دنيا ودين، ودنيا قبل الدين، والحج كما يقول المثل الشعبى «زيارة وتجارة»، ومن هنا حقق الحج فعلًا ما عجزت عنه الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامى، فى تفعيل ما يسمى «السوق العربية» أو «السوق الإسلامية» المشتركة.
هذا الحاج الذى يقطع الطريق البرى من نواكشوط أو مراكش عبر الصحراء والمدن ليصل إلى الحرمين الشريفين لإقامة شعائر الحج، ثم يعود مرة أخرى إلى بلاده، فى رحلة تستغرق عدة أشهر، كيف ومن أين يأكل عبر هذه الرحلة الطويلة، وكيف يستعين على تغطية نفقات السفر؟ من هنا كان الحاج يحمل بضائع بلاده ليبيعها فى البلاد التى يمر عليها، ليشترى أيضًا الحاجات اليومية اللازمة له، ثم يشترى بضائع جديدة من بلاد ليبيعها فى بلاد أخرى، وفى رحلة العودة يشترى هدايا لأصدقائه، لكنه يصطحب معه أيضًا بضائع ليبيعها فى بلاده لعلها تستطيع سد نفقات رحلة الحج الشاقة، ولمَ لا يحقق أرباحًا؟.. إن الإسلام لا يفرق بين الدنيا والدين، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يذهب فى رحلة الشتاء والصيف إلى الشام واليمن.
آه عليك أن تتذكر أقوال الرحالة فى الأسواق التى تشيد على طريق الحج ليتلاقى فيها الناس على اختلاف أجناسهم وألسنتهم وأيضًا بضائعهم، ولأنها «أرض الإسلام» ولأنها قبل الحداثة فلا اعتبار يذكر لمسألة «الحدود».
آه أيتها الحدود يا وليدة الحداثة، يا ملعونة، كم من الأنفس تقتل دفاعًا عنك، عن هذا الكائن المتخيل؟!! جاء ابن خلدون من المغرب العربى ليعمل قاضيًا فى مصر ومات بها، والمؤرخ الكبير عبدالرحمن الجبرتى جاء أجداده من الحبشة إلى مصر فى طريق الحج ثم طاب لهم المقام بها وأنجبوا الجبرتى شيخ مؤرخى مصر.. آه، ملعونة أنت أيتها الحدود وليدة الاستعمار والحداثة.
- محمد.. محمد..، آه أبى ينادينى، طلع الباسبور علشان وصلنا المطار.
الباسبور الحدود، المكان الزمان، يجب أن أنسى مهنتى..
من العسير أن تكون مؤرخًا تضع قدمًا فى الماضى وأخرى فى الحاضر!
مع السلامة يا بابا ماتنساش الهدايا يا حاج.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف