محمد الرميحى
تداعيات التصدع فى البيت الأبيض
الصحافة الغربية، خارج وداخل الولايات المتحدة مهتمة بما يحدث فى البيت الأبيض، ذلك الاهتمام يصاحبه قلق بين، وهو اهتمام واجب لمنطقتنا التى تعج بالحروب، وللبيت الأبيض، مباشرة أو مداورة يد فى ذلك، ما يتخذ من قرارات فى البيت الأبيض يؤثر على العالم بشكل ما، ومنطقتنا العربية على رأس المناطق التى تتأثر.
الظاهرة الواضحة أن ساكن البيت الأبيض الجديد نسبيا الآن على أقل ما يمكن أن يُوصف به هو تعبير (مُحير العالم) كما هو محير شعبه من خلال تصريحاته التى توصل بعضها الى حافة الهاوية فى الشأن الداخلى الأمريكي، وفى الشأن الخارجي. وواضح أيضا أن هناك صراعا داخل البيت الأبيض نفسه بين من يجب أن يستمع إليه الرئيس ومن يحب أن يطرد، نتيجة مجموعة من التراكمات السريعة والمفاجئة فى السياسات التى حدثت فى الأشهر القليلة الماضية.
قبل أسابيع قليلة (فى وسط شهر أغسطس الماضي) أصدر صحفى أمريكى هو جون جوشن، يعمل فى صحيفة بلومبرج الاقتصادية، كتابا بعنوان (الصفقة الشيطانية) (ستيف بانون ودونالد ترامب، واقتحام البيت الأبيض) لفت نظرى الكتاب وعنوانه المثير من قراءة الكتاب واضح أن السيد بانون كما تابع سيرته الكاتب قادم من اليمين الأمريكى الأبيض، وبعد أن فقد السيد ترامب عددا من مدير حملته الانتخابية، وصل إليها بانون معجب بالقائد الذى يشاركه فى مجمل أفكاره، ووجدها فرصة لتحقيق الكثير مما يؤمن به ذلك الرجل من خلال المرشح الجديد، حتى عُرف السيد بانون بأنه عقل دونالد ترامب.
بانون عمل فى عدد من الأعمال السينمائية والانتاجية فى السابق كان من مؤيدى سارة بالين، حاكم ولاية آلاسكا ومرشحة كنائب رئيس فى بطاقة جون ماكين الجمهورية لانتخابات عام 2008 التى خسرها الحزب الجمهورى لصالح السيد باراك أوباما، راهن ستيف بانون على سارة من أجل إعادة ترشيحها لما تمثله من أفكار الدفاع عن مصالح الرجل الأبيض، إلا أن أطروحات ترامب فاقتها فى هذا المضمار. الرجل استراتيجى يمينى صاحب قدرات لا يستهان بها، وله موقف واضح فى كيف يمكن أن تصبح أمريكا عظيمة وأن العولمة قد أضعفت البلاد كما يفعل المهاجرون الجدد الذين يجب أن يمنعوا من الدخول.
أدار حملة ترامب بجدارة وهيأ بذلك طريقة الدخول إلى البيت الأبيض، ثم أصبح الاستراتيجى الأول فى بيت الحكم الذى تدار منه الولايات المتحدة وتؤثر قراراته على العالم، يعطيك الكاتب انطباعا بأن السيد بانون هو المايسترو الذى سوف يشكل سياسة الولايات المتحدة للسنوات الأربع المقبلة.
بعد أسابيع من ظهور الكتاب قام ترامب بطرد من أخذ بيده إلى الرئاسة، كما لم يتوقع كاتب الكتاب. تبع ذلك سلسلة من طرد المساعدين الذين حسب التعبير الشعبى فى الصحافة الأمريكية (قد أشير إليهم إلى الباب). وجميعهم من اليمين المتشدد، فى خلال أسابيع قليلة هدد الرئيس دونالد ترامب بحربين، الأولى تجاه كوريا الشمالية،سوف نواجههم بالنار والغضب، والثانية تجاه الجارة الجنوبية فنزويلا، طبعا مرورا بالمكسيك الذى يريد أن يبنى جدارا على حدودها و على حسابها. الأمر الذى جعل من الفنزويليين يتدربون بالآلاف على الأسلحة لمواجهة تهديد ترامب.
فى الحقيقة فى الأشهر الستة الماضية، قليل من الدول التى لم تتلق من السيد ترامب تهديدا من نوع أو آخر، حتى أصدقاء الولايات المتحدة التقليديين لم ينجوا من فلتات لسان الرئيس ، كما أن الرئيس يقول القول ثم يناقضه، حتى أصبحت تناقضات البيت الابيض غير مستغربة. على الصعيد الداخلى يواجه السيد ترامب غضبا متناميا ليس من الديمقراطيين، وهو امر طبيعى ،ولكن حتى من عدد وافر من أعضاء الحزب الذى قرر ان ينتمى اليه، وهو الحزب الجمهورى الذى يتنامى فى صفوفه الرفض العلنى لمجمل سياسات سيد البيت الابيض، خاصة التى لها علاقة بالعلاقات الإثنية فى المجتمع الأمريكى التى تؤثر على ناخبيهم .
لم يعد السود والمنحدرون من أصول اسبانية أو المسلمون هم هدف الكراهية، شعارات مثل (اليهود لن يستبدلونا) وشعارات النازية، وضعت الجميع فى مرمى نيران التعصب الأبيض، خاصة بعد أن ساوى السيد ترامب فى تصريح علنى بين المتعصبين وبين مناوئيهم. التصريح الذى اغضب حتى بعض مساعديه فقرروا القفز من السفينة، إلا أن الجانب الآخر اللافت للنظر أن أربعة أخماس المصوتين الجمهوريين مازالوا يؤيدون سياسات السيد ترامب، مما يجعل الأمر أكثر جدية فى انتشار الكراهية، من رأى قلة قليلة فى المجتمع الأمريكي، يخيف كثيرين فى مستويات مختلفة من الشعب الأمريكي.
الشعور بالكراهية ضد الآخر الذى انتشر على نطاق واسع و قسم المجتمع الأمريكي، البعض يضع اللوم على السيد ترامب، حيث يقول معارضوه إنه لا يعيش دور الرئيس الموحد، بل دور الرئيس المفرق، كما لم يحدث فى تاريخ الرئاسات الأمريكية جميعا، كما تشير الايكونومست حتى رونالد ريجان، كانت له بوصلة أخلاقية، ويعرف انه لا يعرف، فيفوض من يعرف فى الإدارة. العين الآن على الجنرالات الثلاثة الذين يبدو أنهم فى صراع مع المتشددين من (مؤيدى الرئيس) والمقربين منه، الثلاثة هم: جون كليلى كبير موظفى البيت الأبيض، وهيربرت ماكماستر مستشار الأمن القومى وجمس ماتيس وزير الدفاع، لهم خبرة فى الحروب، خدم بعضهم فى كل من أفغانستان والعراق، وهم الآن يقذفون بأعوان الرئيس خارج أسوار البيت الأبيض واحدا إثر آخر. السؤال الملح، هل يستطيع هؤلاء مع مؤيديهم فى المؤسسة التشريعية من الجمهوريين وقف نزيف رأس المال السياسى لهذه الإدارة وأمريكا ككل، أم أن الرئيس سوف يظل يسير على غير هدي، مما يعرض الأمن العالمى للمخاطر، خاصة انه القادر دستوريا على الاستفتاء عن أى فرد فى الإدارة فى أى وقت، الرسائل المتناقضة القادمة من الإدارة الأمريكية إلى العالم تنبئ عن (عدم استقرار وتناقض) لا يستطيع احد من الحلفاء أو الأعداء فهمها، وهى التى تجعل من الآخرين يرسمون سياساتهم بعيدا عن مآلات الخصام وعدم اليقين فى الإدارة فى واشنطن.
جزء من تفاقم الصراعات المحلية فى منطقتنا العربية نابع من تلك الرسائل المتناقضة، فهناك نزيف انسانى ومادى تقريبا فى معظم الجغرافيا الشرق أوسطية، تفسيره عدم اتساق الرسائل القادمة من واشنطن تجاه المشكلات الحاكمة، تلك الضبابية تؤسس لصراعات مختلفة على امتداد المعمورة، يقلق لها الأوروبيون والآسيويون والشرق أوسطيون على حد سواء دون حسم أمر تلك الرسائل المتناقضة يبقى العالم واقفا على أصابع قدميه.
ترى هل سوف يستمر الرئيس فى إشاعة كل هذا الاضطراب أم سوف تقوم المؤسسة بترشيد قراراته؟ فى الأشهر القليلة القادمة سوف يعرف العالم على أى وجه سينتهى هذا الاضطراب، إلا انه بالتأكيد يخلق قلقا متزايدا فى الأجواء السياسية العالمية.