كل عام ومصر بخير، وكل عام وإخواننا المسلمين بخير، فالأعياد مصدر فرح وبهجة تعم المجتمع كله. فالبيوت والشوارع تعلن حالة الفرح بالعيد فمع نسمات الفجر تسود طاقة إيجابية تجعلنا مقبلين على الحياة، تلك الطاقة هى التى تبنى الفرد والمجتمع، لذلك يحاول أعداء الحياة أن يفسدوا فرحة أعيادنا بأعمال تخريبية. ولكن يبقى العيد هو مصدر طاقة حب. وهذا ما جعل أجدادنا يكثرون من الأعياد كما قال المؤرخ بلوتارك: «إنه لا يمر أسبوع إلا ويحتفل المصريون بأحد الأعياد التى تجعل مصر دائمة الغناء والفرح».
وفى اعتقادى أن هذا كان من أسرار تقدم أجدادنا لأن الفرح يجعل الإنسان قادراُ على البناء، وحين تندمج الأفراح بالصلوات والابتهالات يكون البناء روحياً أيضاً فتشبع النفس بطاقة روحية خاصة بالعيد. وفى الأعياد تجتمع الأسرة حول مائدة الطعام فتسود روح المحبة وتذوب الخلافات الأسرية ويصبح العيد سبباً لتجديد روح الترابط والحب، إنه يوم الفرح نستنشق فيه رائحة الحياة فنتغلب على رائحة الموت والدمار والخيانة والغدر فى عالم أصبح غارقاً فى أخبار الحروب والقتل والتدمير والفساد.
ويقول فرويد: «فى داخل كل منا غريزة للبناء وغريزة للهدم، فحين تجد غريزة البناء الإرادة الداخلية لتحقيقها يكون الإنسان ناجحاً، بينما حين لا تجد الإرادة تعمل غريزة الهدم التى تدخل الإنسان مباشرة فى حالة اليأس والشعور بالعبث واللامعني».
والإنسان الذى يفقد الطاقة الإيجابية فى الحياة هو الذى يستسلم لمشاعر الكآبة والضيق ولا يستطيع أن يفرح حتى فى العيد، ولكن من يحمل تلك الطاقة الإيجابية يشع بالفرح والحب لمن حوله فيكون دافعاً قوياً فى تقدم وبناء الآخرين أيضاً. ويقول الكتاب المقدس: «من يستطيع أن يفعل خيراً ولا يفعل فتلك خطية». وهذا لا ينطبق فقط على الأمور المادية، ولكنه أيضاً على الأمور المعنوية، فإن كنا نستطيع أن نكون سبب سعادة وفرح لمن حولنا ولا نفعل نخطئ. وقد يكون أقرب الناس لنا جوعى للحب والفرح والسعادة ونحن لا نحاول أن نشبعهم ونتصور أن الشبع المادى فقط هو مسئوليتنا، ولكن أحياناً يموت الآخر روحياً ونفسياً من جوعه للحب، لأننا لم نهتم به ولم نشبعه إلا على المستوى المادي.
وطاقة الحب والفرح هى التى تجعل الإنسان قادراً على العمل والبناء والإبداع، وقد نكون نعانى مشكلات اقتصادية ومجتمعية، وقد نكون محاصرين بصراعات إقليمية ودولية، ولكن العالم بحضاراته وإنجازاته يشهد لهؤلاء الذين لم تقهرهم الظروف، ولم تمنعهم المصائب والضيقات من العمل، وتقديم الحب والإبداع لمجتمعاتهم فكانوا يشعون نوراً وفرحاً وسعادة لمن حولهم رغم الظروف.
تصور أن أديسون العبقرى الذى سجل ألفا ومائتى اختراع منها المصباح الكهربائى والآلة الكاتبة وآلة السينما كان أصماً. وبيتهوفن الموسيقى الفذ كان يؤلف موسيقاه ويرى العالم يصفق لها وهو أصم لا يسمعها ولكنه كان فرحاً لأنه أعطى سعادة للآخرين. وديستوفسكى الكاتب الروسى العظيم الذى كتب الأخوة الأعداء والجريمة والعقاب وغيرها من الكلاسيكيات الرائعة، سُجن وأهين بل حكم عليه بالإعدام، وأعفى عنه فى اللحظات الأخيرة وهو على منصة الموت، ولكنه خرج من كل هذا بنفس صافية وأكمل إبداعه وإشراقه للآخرين وكان نورٌ فى عصر بداية الإلحاد فى روسيا. وغيرهم كثيرون أمثال طه حسين وهيلين كيلر ودانتي، فبالرغم من ظروف حياتهم فإنهم كانوا يقدمون طاقة إيجابية لمجتمعهم، فهؤلاء علمونا معنى الحياة رغم الألم.
عزيزى قد لا تدرك قيمة مصافحتك واحتضانك مسكينا، وتظن أن كل احتياجاته مادية فقط، ولكنها الحقيقة أن الآخر يحتاج إلى طاقة الحب والنور التى فيك أيضاً، وفى أيام الأعياد لابد أن نفكر كيف نسعد الآخرين بكلمة أو فعل. فهؤلاء الذين ينشرون السعادة ينشرون طاقة إيجابية تدفع المجتمع للعمل والبناء، وأعظم هؤلاء من يفعل هذا وهو يحمل جرحاً أو ضيقاً ولكنه يظل يحب.
ومن هؤلاء العظيم شارلى شابلن الذى ولد فى لندن عام 1889م فى حى فقير، وأمه كانت مغنية وممثلة انفصلت عن أبيه وهو فى الثالثة من عمره واضطرت أن تبيع جسدها كى تطعم شابلن وأخاه، ثم وضعته فى ملجأ بعد أن عانت من انهيار عصبي، ثم ماتت وكان يحبها جداً، وقد حمل فى ذاكرته كيف كانت تسقط من الإعياء لأنها لا تأكل كى تعطى أولادها الطعام.
ترى هل يمكن لطفل مثل هذا أن يكون سبباً لسعادة أحد وهو يحمل كل هذا الألم والجروح الإنسانية، ولكنه استثمر مخزون الألم والجروح فى صنع كوميديا يسعد بها الجماهير. ففى أحد الأيام رأى شخص، يمشى بطريقة غريبة فأخذ يقلده وصارت سمات شخصية اشتهر بها فى السينما، وهى شخصية الصعلوك صاحب القلب الكبير فقد استطاع أن يعلمنا دروسا مهمة من تلك الكوميديا السوداء. وكان يقول: «لن تجد قوس قزح طالما تنظر إلى أسفل».
وصار شابلن أعظم كوميدى فى العالم، وحين مات شيعت جنازته وحضرها عشرون رئيس دولة وثلاثة ملايين شخص كانوا يرفعون صورته لأنه كان سبباً فى سعادة وفرح شعوب كثيرة.
عزيزى القارئ كن سبباً فى فرح وسعادة من حولك، ولتكن أعيادنا فرصة نقدم فيها تلك الطاقة التى تبني، نقدم الحب فى مواجهة ثقافة الكراهية التى تحاول أن تسكن عقول البعض، نعلم أولادنا أن المحبة هى سمات كل من يقترب من اللـه، فلا يمكن أن يقول أحد إنه يحب اللـه وهو يكره أى إنسان. والمجتمعات التى تسودها الحب والفرح هى المجتمعات القادرة على التحدى والبناء. فلنقرع أجراس الحب فى عالمنا الغارق فى الكراهية والأنانية، لنصنع عالما من المحبين يثبتون للتاريخ أن عالم الإنسانية لم ينقرض، وأن الغابة ليست عالمنا، وأن الوحوش لم تسكن أجسادنا ونفوسنا بعد.