الأهرام
يوسف القعيد
«جنيه» من كل مواطن
فى منتصف يونيو 1974، جاء إلى مصر الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون، مطاردا بفضيحة ووترجيت. كانت الزيارة الأولى التى تمت بعد قطيعة بين البلدين بعد ان ثبت بالدليل للرئيس عبد الناصر المشاركة الأمريكية فى عدوان الخامس من يونيو سنة 1967.

عرف الواقع المصرى لأول مرة ـ وللأسف لم تكن الأخيرة ـ تعبير المعونة الأمريكية. جاءوا بكميات من المعونة الأمريكية وصلت ابتداء من يوم الجمعة السابع من يونيو سنة 1974، واستمرت عمليات توزيعها أسبوعاً فى البلدان التى سيمر عليها موكب نيكسون.

كانت قيادة مصر تريد تبديل الولاءات وتغيير الصداقات واستبدال الحلفاء، فقررت أن تكون واشنطن محطة الوصول بعد أن كانت موسكو. وجرى التحول عنيفاً رغم أن حرب السادس من أكتوبر العظيمة خضناها وبأيدينا أسلحة سوفيتية. جرى استقبال لنيكسون لم يحدث مثيله. مما جعل الدكتور فؤاد زكريا يكتب يومها واصفاً الاستقبال باعتباره استفتاء على مستقبل أمريكا فى الشرق الأوسط، وليس على مستقبل العلاقات المصرية الأمريكية. وربما كانت هذه العبارة بالاستفزاز الهائل الذى جرى بداخلى بعد قراءتها السبب المباشر فى مجىء اللحظة التى عشت فيها رعشة الكتابة، فكانت روايتى: يحدث فى مصر الآن. التى دارت حول الزيارة وما جرى فيها. وبالذات عمليات توزيع المعونة الأمريكية. وهى الرواية التى حولها المخرج الشاب ـ وقتها ـ منير راضى، لفيلم سينمائى: زيارة السيد الرئيس.

عندما قلت لفؤاد زكريا وأنا أقدم له الرواية، إن مقاله كان نقطة البدء فى التفكير فى هذا النص. قال لى إنه سعيد أن يتسبب مقال له فى كتابة رواية. وليت كل مقال يكتبه يكون رد الفعل عليه كتاب، بصرف النظر عما فيه رواية أو شعر أو مسرح أو دراسة. المهم أن يكون هناك اختلاف فى وجهات النظر. وأن يخلو الأمر من الهجوم.

يومها هاجمنى عدد من النقاد ـ ومعهم كل الحق ـ لأن أبطال الرواية أو الذين ليسوا أبطالاً كما سميتهم فيما بعد، تسابقوا من أجل الحصول على أنصبتهم من المعونة. وكل من حصل على أى جزء من المعونة اعتبر نفسه فاز بما لم يفز به الآخرون. تساءل من هاجمونى: ألم يوجد فى القرية التى كتب عنها الروائى روايته شخص واحد رفض المعونة الأمريكية.

كان سؤالهم حقيقيا، ويكتشف الروائى عادة خطأ روائياً وقع فيه فى أثناء الكتابة بعد نشر النص ولم يعد ملكه. وأصبح مُلَّاكه جماهير القراء جميعاً. لن أدعى من باب التواضع الزائف أو الكذب الجميل أن هذه الفكرة ـ فكرة رفض البعض المعونة الأمريكية ـ لم ترد بخاطرى. ولكنى خشيت وقتها أن يتحول الأمر لكتابة دعائية أيديولوجية موجهة تخلو من سحر الواقعية الجميل عندما يقترب من الناس فى حياتهم اليومية. ويحاول أن يصبح معادلاً موضوعيا لما يمرون به فى الحياة اليومية. لقد صدَّرت الرواية بعبارة لأبى ذر الغفارى:

- عجيب لمن لا يجد القوت فى بيته

كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه.

وربما يؤكد هذا الاستشهاد الخطأ الذى وقعت فيه. وإن كان تنبه له الدكتور على الراعى فى المقدمة التى صدَّر بها الرواية فى طبعتها المصرية الثانية والأساسية. وصف من وزعوا المعونة على فقراء المصريين بالخونة. بأنهم خانوا وطنهم وضمائرهم وتوطأوا مع حدث سياسى كان يجب أن يكونوا ضده.

صدرت طبعة الرواية الأولى بالقاهرة مارس 1977، ولأن دور النشر رفضت نشرها، نشرتها على حساب من سيقرأونها. طبعت إيصالات ووزعتها وبعائد الإيصالات طبعت الرواية. لكنها كأنها لم تصدر، لم يقبل توزيعها سوى الحاج محمد مدبولى فى كشكه الصغير بميدان طلعت حرب قبل أن يصبح الكشك مكتبة.

ثم صدرت طبعات منها فى دار ابن رشد ببيروت، ودار الأسوار فى عكا القديمة، بفلسطين المحتلة. ولم تصدر فى مصر إلا بعد أن نشرتها دار المستقبل العربى، التى أسسها الأستاذ محمد فائق، وكانت حلماً من أحلام النشر الجميلة. لكن للأسف فإن كل ما هو جميل لا يستمر. فلم تستمر دار المستقبل العربى فى العمل، ولم يبق منها سوى ذكريات ما نشرته من أعمال. لست فى حاجة للسؤال: ما الذى ذكَّرنى بحكاية المعونة الأمريكية الآن؟ لأننا نعيش مناخاً لا بد أن يعود بالإنسان إلى المربع الأول، إلى الكلمة الأولى فى قصة المعونة الأمريكية. بعد الإجراءات الحمقاء التى تخلو من الإنسانية ومن التعامل مع دولة إقليمية عظمى مثل مصر. الخطير أن هذا يجرى بعد أن راهنوا آناء الليل وأطراف النهار على الرئيس الأمريكى الجديد دونالد ترامب.

تابعت ما جرى أخيرا، وأحسست بالمهانة أكثر من مرة. خصوصاً عندما قيل إن المبلغ الذى سيقتطع من المعونة الأمريكية بسبب بعض موقف الإدارة المصرية سيتم تعليقه فى حساب مؤقت، ويمكن إعادته عند الاستجابة للشروط الأمريكية. أو أنه سيحول لتونس. والحقيقة أن أمريكا التى علمت الدنيا الكذب لم تعلن موقفها الحقيقى من القضية. لأن المشكلة تكمن أساساً فى علاقات قديمة ومعمرة بين مصر وكوريا الشمالية. ويبدو أنه كانت هناك ضغوط رفضتها مصر ولم تعلنها، إما لتحجيم العلاقات، أو لقطعها. أما ما يقال عن الحريات فتلك نغمة لا جديد فيها. ولا أعتقد أن الإدارة الأمريكية لا الحالية والسابقة ولا الأسبقة لها الحق فى أن تتكلم فى هذا الموضوع.

هالتنى ردود الأفعال. نظرنا للأمر وكأنه يجرى لبلد غير بلدنا، وشعب غير شعبنا. وتذكرت بطولات الشعب المصرى العظيم ضد أى محاولة للنيل من استقلاله. وفكرت لماذا لم تبدأ أى قوى سياسية، أى جماعة، أى نخبة، أى حزب، أى نقابة مهنية. أى نقابة عمالية. حملة لجمع تبرعات من المصريين تبدأ من الجنيه ويمكن أن تصل حسب قدرة كل مواطن، حتى نجمع ما منعته أمريكا عنا. ونستغنى عن الآخرين. وفى المقدمة منهم الولايات المتحدة الأمريكية.

ليس هذا بجديد، فعله المصريون حتى عندما كانت مصر محتلة من الاستعمار البريطانى. فهل نعجز الآن ونحن أصحاب مصر أن نفعل ما فعله الأجداد فى ظروف الاحتلال؟.

كيف مات إحساسنا بمصرنا؟ ومتى؟ ولماذا؟!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف