الأهرام
خالد عمر بن ققه
أكذوبة «الزمن الجميل» عند العرب
للعرب حنين إلى التاريخ ـ بما فيه من مصائب وأزمات ودروس وعبرـ فنحن دائما نتحدث عن الماضى باعتباره «الزمن الجميل»، وحين نحاول تذكُّره تطلعاً أو قراءةً أو حتى معايشةً، نكتشف أنه كان سَيَّئاً مقارنة بأزمنة الأمم والشعوب الأخرى الموجودة فى نفس التاريخ، وسيِّئاّأيْضاً إذا نظرنا ضمن علاقاتنا الاجتماعية وأوضاعنا الطبقيّة، وسَيَّئاًكذلك مقارنة مع حياتنا الراهنة، ومع ذلك نُصرُّ على التعامل معه باعتباره الأفضل، ويصل عند البعض إلى درجة القداسة.. المدهش أن تناول العامَّة للتاريخ من منظور ثقافة الأساطير والخرافات، لا يختلف عن تحليل النُّخب المثقفة، ويأتى الدفاع من الاثنين ـ وهو دائما مناقض للعقل ـ مقرا لحقائق، غالبا ما تكون أوهاما، قائمة فى أذهان أصحابها فقط.

إذا نظرنا إلى ذلك الحنين من الناحية السياسية، فإنه يبدو لنا توجهاً مقصوداً لصنَّاع القرار، فحاضر هؤلاء، المُنَاقِض لصِيَغ العالم المعاصر، المُحدَّدة لطبيعة السلطة وأنظمة الحكم وصلة القادة بالشعوب، لا يكمن القبول بها، بغضِّ النظر إن كان ديكتاتورية مباشرة أو تحايلا على الديمقراطية، إلا إذا تم الاستنجاد بالتاريخ، ليس من أجل تصويب الراهن، ولكن للانشغال بالماضي، فصراعتنا اليوم بكل أبعادها، خاصة الدينية منها، ما هى إلا احياء لأفعال أصبحت ذكريات عابرة، كثير منها غير مأسوف عليه، والغالبية منا لا تبغى سماع اسمه، فما بالك باستعادته، مع أن كثيراً من الباحثين متحمس لكل ما هو تاريخي، سواء بالنقد غير المبرر، أو بالمدح المبالغ فيه، وفى الحالتين نحن مشدودون إلى الماضى أكثر من الحاضر.

وتبرز مأساتنا على صعيد التنظير، حين يتعلق الأمر بخصومات مكررة ومستهلكة بين المثقفين والباحثين من جهة،وبين أنظمة الحكم المتعاقبة فى تاريخنا القديم من جهة ثانية سواء تعلق ذلك بقضايا ذات صلة بالدنيا من حيث هي: حكم وتوزيع ثروات وصراع دموى واقتتال من أجل المنافع، أو كانت ذات صلة بالآخرة ضمن ضوابط وأوار ونواهى الدين، دون النظر من زاوية أن من سبقونا شكلوا فى تاريخنا ـ خيرا أو شرا ـ حالة أمة خلت لها ما كسبت، ولنا ما كسبنا، وقد امتدت تلك الخصومات لتشمل الحاضر، حيث تحمل كتب السير الذاتية للقادة والزعماء ـ وهى قليلة ـ نقدا لاذعا، أو مدحا مُخْجلا ومُفْتَعلا لزعماء رحلوا، وبذلك نجد أنفسنا نسير على نفس النهج.. إنه خطاب من انتهت أدوارهم ولا يزالون أحياء، عن من انتهت أدوارهم وصاروا أمواتاً، وخطاب النهايات هذا لا يمكن التأسيس عليه، لأّنه مثَّل الجدل والنقاش حول القضايا القديمة فى تاريخنا، بدْءا من الاقتتال لأجل السلطة وليست انتهاء بتبنّى أو رفض مسألة «خلق القرآن» من النخب والحكام فى الماضي.

المشهد العام فى دولنا العربية، عمودياًّ وأفقياًّ ـ هو خليط من حداثة وعصرنة على مستوى وسائل التقنية وتخلف على مستوى طرح الأفكار والرؤي، وهذا الخليط هو الذى يُسْهِم اليوم فى اذكاء نار الفتنة، ولأن الأزمنة متداخلة فنحن لا نعرف فى أيِّ مرحلة نعيش، ذلك أنَّنا نُوظِّف منتوجات عصرنا بما فيها المناهج والنظريات لتحليل تجارب من سبقونا، متخلين طواعيَّةً أو برغبة الهروب أو كُرْهاً حتى نتناسى واقعنا، عن عمرنا الفردى والجماعي، والأمثلة عن ذلك كثيرة، بدْءاً من القول بوجود يسار ويمين فى الإسلام، وليس انتهاء بتداول السلطةكما عرفها تاريخنا العربى القديم، ولذلك تكون النتائج اليوم هى ما نراه من صراعات طائفية ومذهبية وعرقية، وبعث للأقليات، ودفعها للمطالبة بحقوق تشترك فيها مع الأكثرية، غير أنها لا تعى ذلك، إن استطاعت أن تحقق جزءا منها، مثل الاستقلال الكامل أو الذاتي، وقد تؤول إلى نهاية مشؤومة، ليس لأنها تعودت العيش فى مأمن مع الأكثرية فحسب، ولكن لأن مُحدَّدَات البقاء غير موجودة لديها، ناهيك على أنها ستكون فريسة للأمم المٌتّكَالِبة على المنطقة.

من ناحية أخري، فإن اعتماد الحاضر العربى على مخزون الذاكرة الجماعية، يعتبر مسألة فى غاية الخطورة، لأنه يعيد احياء السلبيات ـ تماما مثلما يفعل المتخاصون بيننا اليوم حين يهدد أحدهما الآخر بإظهار الوجه الثاني، السيئ طبعا ـ لهذا علينا التَّخلص من محتويات مخزون الذاكرة، أو على الأقل فرز ما بها من تراكمات هى أقرب إلى العلامات الدالَّة على تِبْيَان الصالح، الذى يمكن التأسيس عليه، والطَّالح الذى علينا ابعاده نهائياَّ، وهو دور منوط لكل النًّخب، وخاصة المثقفة، إذ لا يقلُّ أن نظل أسرى الصراع السياسى فى الحاضر على خلفيَّة دينية أو أيديولوجية من تأثير الخلاف فى الماضى حول السلطة وطبيعة الحكم.

عارٌ علينا اليوم تصدير تلك الخلافات الماضية لنبرهن لدول العالم على صحة ما نقوم به، لدرجة أن مؤسسات غربية ـ سياسية وأكاديمية ـ أصبحت مقتنعة تماما بان ما يحدث اليوم فى بعض الدول العربية، خاصة العراق وسوريا، هو أساس خلفية مذهبية، تعود إلى قرون، ولا يمكن حلها الأزمات الراهنة إلا بتقسيم تلك الدول على أساس مذهبى وعرقى وطائفي، وكل هذا نتيجة التوظيف السياسى لأحداث التاريخ، وإذا كان من الصعوبة بمكان تجاوز الحالة الراهنة بِيًسْر لتعدد المرجعيَّات، خاصة الدينيَّة، فإن التقليل من جرعة الماضى قد يكون مدخلا لتغيير يمكننا فى النهاية من العيش فى عصرنا وصناعة تاريخنا، وهذا يتطلب رؤيةً شاملةً، تكون فيها الأولوية للحضور فى الراهن، وليست للغياب فى الماضي، وربما ينتهى بنا ذلك إلى التخلص من أكذوبة «الزمن الجميل» عند العرب.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف