د. مجدي العفيفي
ولا يزال يوسف إدريس حيًّا! «3-3»
الدين قوة والإيمان شحنة
في ختام هذه السلسلة من المقالات احتفاء بذكرى رحيل الكاتب الكبير يوسف إدريس، الذي لا يزال حيا بأعماله وأفكاره التي تخترق الزمان والمكان والإنسان، أوثر أن أتعرض لواحدة من القضايا التي وهبها إدريس كثيرا من نصوصه الإبداعية في القصة القصيرة والرواية، وهي القضية الدينية في منظوره المستنير، وكأن ما طرحه من رؤى في هذا السياق لا يزال يحتاج إلى تنوير وكفاح من كل ذي قلم وفكر وحجر.
لم يتعرض يوسف إدريس إلى الدين في ذاته، لكنه لجأ إلى التوريات الدينية وهو يطرح رؤيته عبر أجواء تسع قصص «رمضان، سره الباتع، أبو الهول، طبلية من السماء، أكبر الكبائر، دستور يا سيدة، ما خفي أعظم، بيت من لحم، أكان لا بد يا لي لي أن تضيئي النور» وهذه التوريات لا تصل إلى درجة الالتباس أوالتعمية، وإنما هي «نوع من التمثيل الكنائي، أو الأليجوريا التي يمكن أن تومئ إلى المعنى المحتبس، أو الدلالة المقموعة، أو الموضوع الذي لا يمكن التصريح به، وذلك على نحو ما فعلته اللغة القصصية المحملة بالرفض السياسي» واستشفاف المعنى من الدلالة الموحية بفكرة أو قضية.
تكشف نصوص يوسف إدريس عن أن استغلال الدين كأداة قمع لا يجدي، فالأمر في هذه الحالة يفتح الأبواب الخلفية للتحايل الضمني على المعاصي، فحياة الناس عنده لا تحتمل «فكرة الله الكامل» و«الله المجرد صعب» (قصة أكان لا بد يا لي لي أن تضيئي النور، ص18و19) -التي تعد مثالا خصبا- بل إن الدين يفقد وظيفته في ضبط النفس وردعها وتحقيق الانسجام بين الإنسان وذاته، وبينه وبين المجتمع والآخر، بل والعالم وصولا إلى تحقق العلاقة المفترضة مع الله، إذا تحول في حياة الناس إلى عملية تخويف، ومصدر ترهيب بلا ترغيب، وتهديد دون حماية، ووعيد بلا وعد، وابتعد عن إشارات الرحمة، وبشارات السماحة، الأمر الذي يجعل الناس يتعاملون مع الدين في دنياهم بشكل ظاهري، حين يكرهون عليه، فيمارسونه على أنه مجرد شعائر فقط، فهم يخاطبون خطيب المسجد الشيخ عبد العال في قصة «أكان لا بد يا لي لي أن تضيئي النور» بطريقتهم «خميرة عكننة مش عايزين، وحسابنا في الآخرة نحن عارفين.. والحساب يجمع.. بأدبك أهلا وسهلا، تدوشنا تاني إنت واللي يصحى لك» و«الصلاة ركعتا جمعة كل أسبوع، والنهار صيام في رمضان هذا صحيح، ولكن المهم أنه من الفطار إلى السحور «حشيش» وإيمان بالله ما هو -الحشيش- حرام: إديني آية نزلت تحرمه، الزكاة معظم أغنيائهم يخرجونها فعلا، بل إن أحدهم كان عينيا كما أمر الدين، ومن «بضاعته» كان يزكي، والحج تاج على رؤوس كبار المعلمين، وعلى الأقل يتيح القسم ساعة الصفقات بشباك الرسول» (القصة، ص18).
وحين تعامل الشيخ عبد العال كداعية مع أهل حي الباطنية من خلال الرغبة المستعرة في إيقاظ الله في نفوس تريد أن تنسى فكرة وجوده، ولجأ إلى الوعظ المباشر والوعيد، وعامل الناس من عليائه ولم يتعمق في فهم أعماقهم باء بالفشل، غير أنه أدرك المشكلة «الخطأ خطئي، وإني قبل أن أهديهم لا بد أعرفهم أحيانا لأغيرهم، أصبح منهم ليصبحوا مني، إن لهم لغة أخرى، وقيما أخرى، ومفاتيح خاصة، بغيرها تبقى دائما خارج السور والصدور» لذلك ساعة أن هبط من العزلة إلى القهاوي ليجلس إلى الداخلين في حظيرة الدنيا حديثا يرى ويسمع ويقترب، متوسلا بالحسنى والجمال في توصيل الرسالة أحدث ذلك أثره في النفوس فحولها إلى حالة من الخشوع، ويطرح يوسف إدريس جوهر العلاقة بين الشيطان والإنسان في هذه القصة من خلال موقف الشيخ عبد العال.
يصور يوسف إدريس لحظة صراع داخل النفس الإنسانية بضعفها وقوتها، لكنه يرفض تعليق أخطاء النفس وضعفها على مشجب الشيطان «خائف أنا، أنا خائف! لا من الشيطان خائف، من نفسي أخاف؟ من نفسي أجل، كم مرة ضبطتها من شكوى المحرومات أو الفاسقات تصغي بانتباه واندماج أكثر مما يجب، كم مرة ضبطت داخل نظرتي شعاعا من حب استطلاع مرة، ومن تلمظ الجائع الصائم الراغب في الطعام مرة» (القصة، ص25) لحظة صدام بين ثنائية جدلية قوامها التحدي والإرادة، ينتزع فيها يوسف إدريس القشرة الخارجية للفهم الخاطئ لحقيقة الشيطان والتواري خلفه، ويترك بطله في غمار المواجهة، وفي صراع الصواب والخطأ بعيدا عن المفاهيم الضيقة عن الحلال والحرام.
يرى يوسف إدريس أن النظرة الواعية للدين كقوة إيمانية وطاقة روحية، تدفع الإنسان كفرد والجماعة ككل، إلى الفعل الإيجابي، كما تتجلى بذلك في قصة «سره الباتع» الممارسة العملية التي تكمن فيها طاقة الإيمان، فترتقي بالنفس إلى الأعلى والأسمى، وتتغلب على التحديات الخارجية بالشحنات الإيمانية الجوانية من خلال المشاهدة العينية والفؤادية لعالم الآثار الفرنسي «كليمان» وهو يكتب خطابا لصديقه «رولان» عن مرئياته للفترة التي قضاها في مصر، خاصة بين الفلاحين في الدلتا، وبالأخص في قرية «شطانوف» التي يرقد فيها ضريح السلطان حامد، فهو يصفهم بأنهم يزاوجون بين العمل والعبادة «يزرعون الأرض ويصلون لله» وأن «إيمانهم ليس عن اعتقاد وتفكير، ولكنه عن حب، يحبون الشيء إلى درجة الإيمان، وأن لديهم طاقة حب هائلة، إنهم ليسوا شعبا، إنهم كتلة.
وإذا كان التعامل الدلالي مع الضريح في قصة «سره الباتع» كإشارة للقوة الدينية، وشحنة للإيمان الذاتي والجماعي وقوة للفعل الإنساني الإيجابي فرديا وجماعيا، فإن التعامل مع الضريح في قصة «دستور يا سيدة» يبدو تعاملا سلبيا حيث تعتمد بطلة القصة على زيارتها الأسبوعية إلى ضريح السيدة زينب كمبرر للقاء فتاها، وتتخذ من المرور على مسجدها ملجأ تكثف فيه مشاعرها، وتبث في مقامها وحدتها وأنينها، وتتكئ خجلا وعجزا على تعبير «دستورك يا سيدة» لتواري فيه سوْأة سقطتها مع الشاب، فتصنع من الضريح ستارة تحتمي وراءها، وتلقي باللائمة على المقادير التي رتبت كل شيء.
يرفض يوسف إدريس الهروب من الدنيا باسم الدين، وينتقد الابتعاد عن ممارسة الحياة بالغلو في التدين إلى حد ترك متطلبات الواقع الأساسية، وهجر العمل اليومي، والانصراف عن تحمل المسئولية العائلية، بالتواري والاعتكاف والزهد الناجم عن الفهم القاصر لمعناه، كما في حالة الشيخ صديق في قصة «أكبر الكبائر» كان فلاحا خبيرا بالفلاحة يحب الأرض والزرع ويجن شغفا بالمواشي ويفرح بولادتها ربما أكثر من فرحة الابن، والقراريط التي يزرعها دائما فيها خضرة أو شيء لا يزرعه الناس، وفجأة إذا به يترك كل ذلك فيزهد في الدنيا، ويعرض عن زوجته أم جاد أو الشيخة صابحة منذ أن جاءته «الطوفة» وجعلته يبدأ يغالي في التدين وصلاة الضحى والتراويح ويسهر الليالي في الموالد يذكر ويجعل من نفسه إماما للذاكرين، ويؤمن بتلك الطريقة الدمرداشية ويتروحن ويحدثها عن الوصول والسادة والأولياء والإمام الغزالي وكبار الواصلين ويفرض عليها الطرحة البيضاء والسبحة، فأهمل الأرض فلا تجد «من يعتني بها ويسقيها، وأهمل الدار والزوجة والولد وكل شيء، وتفرغ لنوبات العبادة التي تبدأ مع العشاء ولا تنتهي إلا بعد الفجر، حيث يصلي وينام للضحى، ويروح منهم دور الماء في الساقية، ويعطش القمح وتقضي سنابله، ولا يصب لهم من الفدان إلا أردبان» (القصة، ص57).
ويصبح الدين قناعا يواري الاستخدام السيئ لمعنى الدين كما يمثله ما فعله الشوبكشي «الذي بنى جامعا في حي الباطنية ليحمل اسمه» وقفا من قديم الأزل بالسياط سلب وضرب، واعتقد أنه بالجامع وبضريحه المقام بجوار القبلة يجني ثمار الدعوات، ستحمله صلوات الناس جيلا بعد جيل لتقربه من الجنة، حتى رحلة الجنة تقطعها على أكتاف الآخرين يا.. تركي!» (قصة أكان لا بد يا لي لي أن تضيئي النور، ص17). كما يظهر الاستغلال السلبي للدين والسخرية ممن يمارسونه أكثر وضوحا لدى الشيخ الكفيف وهو المقرئ المتستر شكلا في عباءة تلاوة آيات الذكر الحكيم على الأموات، والمختبئ باطنا وراء شهواته وغرائزه إلى حد ارتكاب فاحشة الزنى في قصة «بيت من لحم» هذا البيت الذي أصبح فيه الذكر الأوحد وسط أربع نساء في حجرة واحدة تتجسد فيها المأساة حين بدأت تنسج خيوطها في الظلام، والشيخ يمارس الخطيئة الجنسية مع كل واحدة من بنات زوجته الثلاث، ليحل الصمت المطبق في أجواء البيت الضيق.
وتعرض قصة «طبلية من السماء» صورة متعارضة للشيخ علي الأزهري، فالفقر المتوحش يدفعه إلى استنزال لعنة السماء يوم الجمعة على أهل قريته في «منية النصر» احتجاجا على إهمالهم له جوعا وحرمانا حتى من كسرة الخبز، كما يزعم، ومن أجل ذلك يهدد بإعلان الكفر علنا في جرن القرية، مستغلا اعتقاد الناس بأن في يوم الجمعة ساعة نحس، وقد اختار الوقت بعد صلاة الجمعة ليتجمع حوله أكبر قدر من الناس، كما حدد المكان وهو جرن القرية، حيث الاتساع والفضاء، كما اعتمد على ما لديه من بقايا علاقة مع دراسته الأزهرية، وهو الذي تمرد على الأزهر ومشايخه، فراح ينتقدهم ويطلق العنان لأفكاره الجريئة وغضبه اللفظي والموضوعي.
ويسخر يوسف إدريس من الشيوخ المتاجرين بالدين، هؤلاء الذين يرهبون الناس ويخوفونهم باسم الدين، فلا يعرضون من سماحة الإسلام ما يقربهم إلى الله، ويؤثرون عرض مشاهد من عذاب القبر وصور الجحيم، ترهيبا لا ترغيبا، بل ويقرأون القرآن بطريقة لا خشوع ولا جمال، من خلال لقطة أثناء تقديم العزاء فى مأتم بالقرية، سردها راوي قصة «أبو الهول» للشيخ مصطفى مقرئ البلدة صاحب الصوت الغليظ القبيح الذي تتطاير شظايا صوته مخترقة فضاء الليل الواسع ترج القرية رجا ويصحو لها نائمون في بلاد أخرى.