صلاح سالم
قضية التوريث بين النص والتاريخ
حسب الإمام السيوطى فى «الإتقان فى العلوم القرآن» يتوزع النص القرآنى، طبقاً لدرجات الوضوح الدلالى، على أربع درجات: الأولى تتعلق بالواضح الذى لا يحتمل إلا معنى واحداً، وهو النص. والثانية التى تحتمل معنيين أحدهما راجح (الأقوى) والآخر مرجوح (محتمل)، وهذا هو الظاهر. والثالثة هى التى تحتمل معنيين كلاهما يساوى الآخر فى درجة الاحتمال، وهو المجمل. أما الرابعة فهى التى تحتمل معنيين غير متساويين فى درجة الاحتمال، ولكن المعنى الراجح (الأقوى) ليس هو بالمعنى القريب (الظاهر) كما فى الثانى، بل الراجح هو المعنى البعيد، وهذا النوع هو المؤول.
تندرج قضية الميراث بالطبع فى سياق الدرجة الأولى من الوضوح الدلالى، كنص قطعى الثبوت والدلالة، ارتسمت معالمه فى سورة من كبريات سور القرآن المدينى، ومن ثم فإن مقترح الرئيس التونسى الذى وافق عليه ديوان الإفتاء يمثل اجتراء على النص لا يجدى معه أى تأويل. وهنا أعلن انحيازى بوضوح لموقف الأزهر والزيتونة، اللذين رفضا المقترح، لأنه يعدم النص بذريعة النسبية والتاريخية، فى قضية من القضايا القلائل التى يعنى بتنظيمها الإسلام وعموم الأديان، فلو نزعنا قضايا كالزواج والطلاق والميراث لما بقى من منظومة الشريعة الإسلامية شىء صحيح أن هذه القضايا الثلاث بالذات تتجاوز المجال الروحى للفرد بالمعنى الضيق، ولكنها أيضا لا تقع ضمن المجال العام السياسي الذى تملؤه الدولة بحضورها، وتقوم على تنظيمه باعتباره مجتمع المواطنين لا المتدينين، إنها تقع بالأحرى ضمن مجال عام أخلاقى تنظمه الأديان، لا يحق للدولة التدخل فيه وإلا نالت من حرية الضمير لدى مواطنيها. والحق أن تمييز الرجل على المرأة فى الميراث قضية يمكن تعقلها نظريا والدفاع عنها تاريخيا دون هروب حاوله البعض بذكر الحالات التى ترث فيها المرأة ولا يرث الرجل أو التى ترث فيها أكثر من الرجل، بفعل تباين المراكز القانونية، فحتى الحالات الثلاث الواضحة فى التمييز لصالح الرجل، يمكننا الاحتجاج بعدة ذرائع أساسية:
الأولى أن أحدا لا يستطيع أن يمنع الأب من أن يكتب نصف ثروته لابنته، أو حتى كل ثروته ويحرم منها ابنه، فله الحق كشخص حر فى أن يخالف الشرع بحسب مستوى التزامه الدينى، مثلما يملك الحق فى أداء العبادات أو تجاهلها، بل الحق الأصلى فى أن يؤمن أو يلحد، والحق فى الاختيار هو جوهر مفهوم العلمانية. أما الدولة فلا تملك الحق فى أن تفرض عليه مخالفة الشرع فى قضية الميراث، وإلا كان ذلك تدخلا منها فى المجال الخاص للفرد، أى أصولية علمانية تتحرش بالدين. ومثلما كان تحرش الدين بالدولة فى مرحلة ما قبل الدولة القومية، دليل خواء الدين وعلامة سيطرة من الكهنوت الدينى على ضمير المؤمن، فإن تحرش الدولة بالدين إنما يعكس خواء الدولة ويمثل دليلا على إفلاسها السياسي، ورغبتها فى السيطرة على جسد المواطن.
والثانية أن النص القرآنى يشرع للعلاقة بين الرجل والمرأة فى ضوء «منظور تراحمى» يقوم على نمط من المساواة العادلة، وليس فى ضوء مفهوم «الحق الفردى» القائم على المساواة المطلقة، كما هو الأمر فى الفكر الغربى الحديث، الذى يسعى البعض إلى تقليده أو نفاقه فى قضية اجتماعية تنطوى على نوع من الخصوصية، وهو موقف تغريبى لا يعكس تمسكا جوهريا بالحداثة، قدر ما يعكس خواء نفسيا وشعورا بعدم الجدارة الثقافية. ذلك أن الإسلام لا يتصور العلاقة بين الرجل والمرأة إلا فى سياق أسرة «وحدة إنسانية» وليس فى سياق علاقة صراعية حول الحق الفردى، فالمجتمع التراحمى إذن وليس الفردية المطلقة هى غاية التشريع الإسلامى الذى يصوغ حقوق الطرفين باعتبارهما «زوجين» يتكاملان فى نواة مجتمعية وليا طرفين فى عقد تجارى. فى هذا الإطار ترث المرأة نصف الرجل، لأن الأخير ملزم بتوفير بيت للزوجية، والإنفاق على زوجته التى هى أخت رجل آخر ورث ضعفها لأنه سوف ينفق على زوجته التى قد تكون أختا للزوج الأول نفسه أو لا تكون، وهكذا تأخذ المرأة من الحقوق كفاء ما فُرض عليها من واجبات: «ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف». بل إن الشاب الذى يرث من أبيه اليوم ثلثى مليون جنيه لن يستطع توفير شقة من غرفتين فى حى عادى، فيما تستطيع أخته أن تجهز نفسها بالثلث.
والثالثة أن النص القرآنى، حتى الآن، لا يزال أكثر تطورا من جل المجتمعات الإسلامية التى غالبا ما تعجز حتى عن تطبيق المبدأ العالم، فالكثير من العائلات فى البيئات المحافظة إنما تحرم الأنثى أصلا من الميراث، أو تبخسها حقها بدفع قيمة مالية متدنية لنصيبها من الأرض أو العقار، خشية أن تنتقل أملاكها إلى من يعتبرونه غريبا وهو زوج الأخت أو الابنة، وهو خلل نفسي وثقافي يُهدر حكمة النص، لن يجدى تعديل القانون فى علاجه، لأن من يرفضون توريث المرأة الثلث سيكونون أكثر رفضا لتوريثها النصف، فالأمر هنا أصعب ما لم يتهذب الضمير ويرتقى العقل، ولذا فالأولى هو الاجتهاد الفعال فى كيفية الارتقاء بالمجتمع إلى مستوى النص، بدلا من إهدار حكمته دون جدوى.
والرابعة: هى إن تقنين مثل هذا الاقتراح لن يحقق تطورا جوهريا فى حياة المرأة لأن نهضتها من نهضة المجتمع، بل الأغلب أن يزكى حنق المتدينين، ويدفعهم إلى تشكيل تيار مضاد للحداثة والعلمنة، وهو ما نظن أنه قد حدث سلفا فى تونس عقب تنفيذ مدونة قوانين عام 1956م، التى تم فيها تحريم تعدد الزوجات، وجعل الطلاق أمام القاضى وليس فى يد الرجل، وأيضا المساواة فى الإرث الذى تم التراجع عنه عام 1973م، وجميعها أمور أثارت استياء ذوى الحساسية الدينية، ودفعت بهم إلى قبضة التيارات المتأسلمة، التى كادت ولا تزال تحاول اختطاف الربيع التونسي، إلى كهف الخريف الإسلامى، وهنا يبدو واضحا كيف أننا نهدر حكمة تاريخنا عندما نتناسى ذلك الدرس البسيط، وهو أن الإفراط فى العلمنة سرعان ما يستدعى عنف الأسلمة، ولنا أن نتخيل مثلا، الصورة التى كان ممكنا لتونس أن تكون عليها الآن لو أن بورقيبة قد تحمس لتكريس التعددية السياسية بديلا عن التطرف فى تكريس النزعة المساواتية بين الرجل والمرأة!.