زياد السحار
طلعت حرب .. حتي لا نكون من الغارمين !
بحيادية ودون أن تعلق تقريباً.. أثارت الكاتبة الصحفية الكبيرة سناء البيسي في مقالها هذا الأسبوع بصحيفة "الأهرام" كثيراً من الشجون وبعثت برسائل عديدة لمن يريد أن يفهم أو يتعلم. خاصة من السادة الاقتصاديين ورجال البنوك والأعمال الذين "صعّبوا" علينا حياتنا وجعلوا من قيمة "الجنيه" في أيدينا أقل من قيمة "المليم" في الزمن الذي كانت تتحدث عنه.
المقال كان بمناسبة موسم الحج ويتناول في مضمونه لمحة من الانجازات الكبري للاقتصادي المصري العظيم طلعت حرب بعنوان "بيان للناس" صدر في عام 1935 يذيع فيه للمواطنين بعض ما قامت به شركة "مصر للملاحة البحرية" احدي شركاته المصرية الصميمة للتسهيل علي الراغبين في أداء فريضة الحج وبمناسبة تشغيل باخرة ثانية "الكوثر" لمشاطرة شقيقتها "زمزم" شرف نقل الحجاج تقرباً إلي الله سبحانه وتعالي دون انتظار أرباح دنيوية هائلة وزائلة كما يفعل رجال أعمال هذه الأيام وشركة الطيران الوطنية التي وصلت بثمن تذكرة الحج هذا العام إلي 30 ألف جنيه في بعض الفئات أو تكلفة الحج نفسه الذي تراوح ما بين مائة إلي أربعمائة ألف جنيه.
أوضح البيان أن ثمن تذكرة السفر بالباخرة ذهاباً وعودة -صدق أو لا تصدق- جنيه واحد.. هذا طبعاً عندما كانت قيمة الجنيه المصري تزيد بعدة قروش عن قيمة الجنيه الاسترليني الذهب.. ويتمتع الحاج لدي سفره علي هذه الباخرة الفخيمة بإمكانيات هائلة لا تفرق كثيراً بين ركاب الدرجة الممتازة "اللوكس" والدرجات الأخري حتي الدرجة الثالثة من حيث وسائل الراحة والأمان والأطعمة والمشروبات والنوم والتنقلات والمسئولية عنهم في الأراضي الحجازية بالتنسيق مع الحكومة السعودية والنيابة عنها في بعض النفقات في سبيل توفير الراحة للحجاج.. وهو الأمر الذي يزيد الثقة في الشركة المصرية ويعزز انتماء المواطن إلي بلده وليس كما تفعل الآن شركات السياحة والطيران.
فقد وفرت الشركة أماكن إقامة في جدة ومكة بها كل وسائل الراحة من الأثاث الوثير الفاخر والأطعمة النظيفة وجهزتها بالثلاجات والمراوح وذلك بأجور لا تتجاوز جنيهاً مصرياً يومياً بما في ذلك الأطعمة.. كما تقدم الشركة لركاب الدرجة الثالثة الخبز الكافي والأطعمة من الخضار واللحم والأرز والحلوي والجبن والزيتون للوجبات الثلاث.. وكل هذا بثمن قدره 40 قرشاً عن كل حاج طوال مدة الحج.
زضاف بيان الاقتصادي العظيم أنه تم الاتفاق بين الشركة والحكومة السعودية لتمهيد الطرق وتوفير الوسائل الصحية والاجتماعية لراحة الحجاج.. حيث تبرعت الشركة والبنك وبعض أهل الخير بمبالغ لإتمام المستشفيات في مكة المكرمة وتجهيزها بأحدث "الآلات" الجراحية والأشعة.. كما اتفقت شركة الملاحة المصرية مع الحكومة الحجازية علي دراسة مشروع تعبيد محل السعي بين الصفا والمروة ليكون أكثر انطباقاً ومنع انهيال الأتربة عليه وتدفق السيول.
أشار البيان إلي قيام الشركة بتوفير مكتبين لبنك مصر علي الباخرتين لتبديل العملة المصرية بالذهب أو الريالات السعودية ولتبديلها أيضا حين العودة بالعملة المصرية وذلك بأسعار تقل عن مثيلاتها في السعودية.. وكذلك توفير محل في كلا الباخرتين لبيع ملابس الإحرام من بفتة وبشاكير من صناعة شركة مصر للغزل والنسيج بأسعار معتدلة.
المقال بالتأكيد شيق ويستحق قراءة نصه.. صحيح أنه يتحدث عن زمن مضي منذ أكثر من 80 عاماً وبغض النظر عن قيمة الجنيه المصري بين الزمانين.. ولكنه يعكس حجم الثقة التي يمكن أن تكتسبها مثل هذه الشركات لدي حرصها علي تقديم الخدمة الجيدة والمعاملة الحسنة للعملاء والمواطنين حتي البسطاء منهم.
وفي نفس الوقت يجعلنا نتحسر علي المستوي الذي تردت إليه الكثير من شركاتنا وبنوكنا المصرية -وغير المصرية- في تعاملها مع الناس حتي في ساعات الانتظار الطويلة التي يتكبدونها لمجرد صرف شيك أو استخراج شهادة استثمار أو تعقيدات بيروقراطية لشباب يسعي لإقامة مشروعات صغيرة أو يبحث عن تمويل عقاري لشراء وحدة سكنية أو سيارة حيث تجذبهم جميعا إعلانات أسعار الإقراض وعندما يذهبون إلي البنوك يصدمون نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة غير المتناقصة ومصاريف بنكية إدارية تستنزف أموالهم مما يجعلهم يحجمون عن التعامل مع البنوك ويلجأون إلي شركات توظيف الأموال التي تضعهم فريسة للنصب والاحتيال.. ويفقد الوطن مشروعات صناعية وتجارية كثيرة يمكن أن توفر فرص العمل لشبابنا الذي يعاني من البطالة.
ولعل المغالاة في أسعار الإقراض التي زادت كثيرا في الفترة الأخيرة أثرت أيضا علي بسطاء المصريين الذين لا يتعاملون مع البنوك.. ولكنهم يتعاملون مع أصحاب المعارض والمحال التجارية التي تبيع لهم السلع من الأثاث أو الأجهزة الكهربائية المعمرة.. حيث يتحول هؤلاء البسطاء إلي غارمين وغارمات يدخلون السجون نتيجة استغلال هؤلاء الوسطاء لظروفهم وحاجاتهم المالية في تجهيز أبنائهم وبناتهم المقبلين علي الزواج.. لأنه لو كان "التاجر" يقترض من البنك بأسعار تتجاوز الـ 25% في المائة فإنه يمكن أن يبيع سلعه بالتقسيط لعملائه بما قد يتجاوز ضعف ثمن السلعة لو طالت مدة السداد ــ وهذا ما يحدث في الغالب ــ ويزيد من أعداد الغارمين والغارمات الذين أصبحوا يمثلون ظاهرة مجتمعية رغم مساعدات أهل الخير والنبلاء من رجال الشرطة الذين يسددون بالنيابة عنهم لإطلاق سراحهم من السجون.
الحديث يطول عن غياب رجال الأعمال والصناعة والرأسمالية الوطنية علي شاكلة الاقتصادي العظيم طلعت حرب الذي يرعي الله ويرعي الوطن ومصالحه في تعامله مع أهل وطنه.
ونحن الآن نشهد أسوأ صورة يمكن أن نراها لرجال أعمال وتجار هذه الأيام تلك الزيادات الهائلة غير المبررة في الأسعار.. والناس تستشيط غيظا أن الأسعار زادت عندما بلغ سعر الدولار عشرين جنيها. وعندها هبط سعره إلي حوالي 17.5 جنيه انتظروا أن تنخفض الأسعار. إلا أنهم يصيبهم الجنون عند كل مرة يذهيون فيها إلي الأسواق ليفاجأوا بزيادة أخري جديدة تعكس مدي الجشع والطمع الذي يعاني منه الناس من التجار وأصحاب المصانع والشركات في ظل الفساد وغياب الرقابة الحكومية الحاسمة.
نأمل أن يطالع كل هؤلاء تاريخ الاقتصادي العظيم طلعت حرب.. علهم يتعلمون.. ويرحمون المواطن المصري حتي لا يكون من "الغارمين"..!!