ما أشبه الليلة بالبارحة! فمنذ زمنٍ بعيد.. كانت نبوءة أمير الشعراء أحمد شوقى، بما سيصير إليه حالنا من الفُرقة والتشرذم، وصاح قائلًا:
إِلامَ الخُلــــــفُ بَينَـــــكُمُ إِلاما * وَهَذى الضَجَّةُ الكُبرى عَلاما؟
وَفيمَ يَكيــــــدُ بَعضُـكُمُ لِبَعضٍ * وَتُبـدونَ العَـــداوَةَ وَالخِصاما؟
فهل كان «شوقى»، ومصر ترزح تحت نير الاحتلال، عالمًا بالغيب، أم أن الشاعر نبوءة كما يقولون، أم أنه غاص فى تركيبتنا العجيبة، دون ترتيب زمنى.. الفرعونية المصرية، العربية الفاطمية، العباسية، المملوكية، العثمانية، البيزنطية، السومرية الآشورية البابلية، واستطاع أن يدق جرس الإنذار والتحذير مبكرًا، ونحن، كالعادة، لا نسمع.. وكأن لا حياة لمن تنادى؟!.
فلقد ترك الاستعمار البغيض فى نفوسنا كل الآثار التى ترتبت على تطبيقه سياسة «فرِّق.. تسد»، ومازالت آثارها كامنة فى نفوسنا إلى يومنا هذا.
وها نحن، الآن، نعانى مما حذرنا منه الشعراء والأدباء فى الأجيال السابقة، والتحذير من اتساع فجوة الخلاف والعداوة والبغضاء بين أبناء الوطن الواحد بكل طوائفه وملله ومعتقداته، فالموروث الثقافى، منذ النشأة الأولى، فى المنزل، يلعب دورًا أساسيًا ومهمًا فى تعميق ثقافة الخلاف فى الأمة العربية والإسلامية، خاصة دور العائلة والقبيلة.. والدولة، فيورث الآباء الأبناء ما ورثوه عن الأجداد، فتصبح بعض العادات مسلمات و«تابوه» مقدسًا، لا يمكن التغيير فيه، سواء كانت إيجابية أم سلبية، فعادةً ما يكون سيد القوم والقبيلة رأيهُ نافذًا لا يقبل الجدل أو الاختلاف.. فينشأ الخلاف والقطيعة، وطبيعة البشرية كلها قامت على التنوع والاختلاف. فسياسة القمع وتسفيه الرأى والرؤى تبدأ بحلقات سلسلة طويلة، بداية من قمع الأب والأم للأبناء، ثم المدرس فى فصول الدراسة الأولى، ثم مواد التدريس المفروضة فى الجامعة دون الأخذ فى الاعتبار للميول أو التوجهات الفكرية والسياسية والعقائدية، ثم قمع المدير المسئول فى العمل، ثم سلطة القمع التبادلية بين الزوج والزوجة حسب قوة شكيمة أحدهما على الآخر، ثم سلطة القوانين الجائرة التى تنحاز دائمًا، وبخاصة فى عالمنا الثالث إلى كفة الأغنياء وذوى الحيثية المالية والاجتماعية.
إذن هى سلسلة طويلة من الإحباطات المتوالية لإرادة الفرد الذى يخرج بدوره إلى الحياة العملية مشبعًا بالقهر كقطعة الإسفنج، ليمارس نفس السياسة القمعية تجاه الآخرين، فالمتعارف عليه أن فاقد الشىء لا يعطيه! وبعد أن كانت المقولة الشائعة: إذا حدثت فلانًا عن الثقافة.. وضع يده على مسدسه، أصبحنا نرى فوهات البنادق فوق رءوس كل من يختلف معنا فى الرأى أو التوجه العقائدى، نتيجة الخضوع للتفسير الخطأ والفتاوى المغرضة، وبخاصة فى تراث الموروث الدينى الذى يجب إعادة النظر فى تقويمه وتصحيح مفاهيمه بالشكل الأمثل، وطبقًا لمقتضيات وظروف العصر، حتى لا يتسع الخرق على الراتق، كما نرى الآن فى مجتمعنا المصرى والعربى الذى تفاقمت فيه علة التشرذم بالخلافات عميقة الجذور.
والغريب أن نسمع مقولة مضحكة لا تعكس الحقيقة القائمة والواقعية، فنردد بلا وعى حقيقى عبارة: الاختلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية! وفوهة المسدس فوق رأسك، والواقع يقول إنه «الخلاف» وليس «الاختلاف»، ليتشبث كلٌ برأيه دون أن يتسع الصدر للمناقشة الجادة، لا الجدال العقيم الذى يصل بنا إلى القطيعة والمقاطعة.
ولكن.. ما الذى أوصلنا إلى هذه الحالة المتردية؟ وهل من سبيل للعودة إلى صفاء النفوس، أم سنظل نردد مع القائل:
«لَقَد أَنَلتُكَ أُذنًا غَيرَ واعِيَةٍ ** وَرُبَّ مُنتَصِتٍ وَالقَلبُ فى صَمَمِ!»
إن مسئولية العودة إلى طبيعتنا السمحة، تتطلب جهود العلماء فى البحث عن جذور هذه المشاكل المجتمعية، واجتثاث جذور الفتنة وإخماد جذوة التشرذم الكامنة تحت الرماد، وإعادة غرس بذور ثقافة القبول والاقتناع بالحوار السليم بين كل طبقات المجتمع على اختلاف ثقافاتهم، فبغير هذا لن يكون المستقبل فى صالح الوطن أو البشر الذين يعيشون فوق أراضيه، فالتغير يجب أن يبدأ من البيت منذ مرحلة الطفولة.
إذن، فالحل الأوحد هو تنمية ثقافة الاختلاف، فهى القادرة على فتح آفاق جديدة فى تقبل الآراء الأخرى، والاستفادة منها، بل تحويلها إلى فكر مستنير تشترك فيه عقول ذات توجهات مختلفة، فالثقافة بلا اختلاف كرأس بلا عقل، جسد بلا روح، مع الأخذ فى الحسبان أن الاختلاف يفقد قيمته حينما يتحول إلى خلاف أو عداء شخصى، فاختلاف الفرد فى رأيه مع الآخر، ميزة إيجابية قد تكشف لأحدهما أو لكليهما قصورًا ما، دون المواجهة المسلحة التى نراها اليوم من بعض الفصائل المارقة التى يجب أن نستأصل شأفتها من المجتمع.
وليكن قدوتنا فى الاحتكام إلى الصبر والحكمة فى المسائل الخلافية، ما حدث من «إبليس» تجاه المولى- سبحانه وتعالى- حين أمر الملائكةَ بالسجود لسيدنا آدم- عليه السلام- فامتثل الملائكةُ لأمر الله، وسجدوا كلهم، أما إبليس فقد استكبر، واعترض على الله، ولم يمتثل لأمره وقال: «أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ» «سورة الأعراف١٢»، فكفر وظهر منه ما قد سبق فى علم الله- تعالى- ومشيئته من كفره واعتراضه باختياره، وكان المولى- سبحانه وتعالى- يستطيع أن يسحقه فى غمضة عين، ولكنه شاء أن يعطينا المثال والقدوة فى التسامح والرحمة والقبول بالرأى الآخر.
فهل وعينا الدرس، وآن الأوان للعودة إلى جذورنا الأصيلة فى التسامح والقبول بالآخر؟.